الحياة - 25/09/08
حين كان المتحاورون اللبنانيون الأربعة عشر، من غير احتساب مدير الحوار رئيس الجمهورية، يدخلون قاعة الاستقلال في القصر الجمهوري ببعبدا، في 16 أيلول (سبتمبر)، ويستمعون إلى خطبة الافتتاح الرئاسية، كان بلغهم وقوع حوادث يعود بعضها إلى اليوم السابق، وبعضها إلى أيام قليلة سبقته، ولا تزال تجر آثارها وذيولها إلى اليوم العتيد. فوقعت حادثة بين مجلس القيادة في حركة التوحيد الإسلامي، وعلى رأسه أحد معاوني أمير «حركة التوحيد» الراحل الشيخ سعيد شعبان، الشيخ هاشم منقارة، وبين نصير هيئة طوارئ جبهة العمل الإسلامي، المنشقة عن الجبهة (وعلى رأسها «الداعية» فتحي يكن). والحادثة هذه ذيل من ذيول الاشتباكات التي انفجرت بين جبل بعل محسن (العلوي) وبين باب القبة ومحلة البقار (السنيين) بطرابلس، ودامت أسابيع. وتوجها اغتيال عشرة جنود، كانوا يهمون باستقلال حافلة نقل صبيحة زيارة الرئيس ميشال سليمان الى دمشق بعبوة انفجرت فيهم. وغداة الاغتيال هذا، وعزي إلى ثأر «فتح – الإسلام»، المنظمة «الفلسطينية» الجهادية التي نبتت في مخيم نهير البارد قبيل اشتعاله طوال 7 أشهر (انتهت في أيلول/ سبتمبر 2007)، قتل في أثنائها 170 عسكرياً لبنانياً - ذهب سعد الحريري، رئيس كتلة «المستقبل» النيابية، الى طرابلس، وتعهد «مصالحة» المتقاتلين، وجمع أعيان المدينة الأهليين والسياسيين، ومعظم الأعيان السنّة هم من حلفائه وأنصاره.
وجبهة العمل الإسلامي – هيئة الطوارئ تكتل انشق عن جبهة العمل الإسلامي، وعلى رأسها فتحي يكن المنشق عن الجماعة الإسلامية، والموالي السياسة السورية وحليف أنصارها وحلفائه في لبنان وشريكهم في ولائهم وسياستهم وتظاهراتهم واعتصاماتهم باسم «السنة». فهيئة الطوارئ هي، على هذا، من حلفاء سعد الحريري. وتلصق الجبهة الأم بها تهمة التبعية المالية والأمنية للحريري والحكومة. ومجلس قيادة حركة التوحيد الإسلامي منظمة إسلامية محلية من المنظمات المتناسلة من حركة التوحيد. وهذه تحولت أداة استخباراتية، سورية وإيرانية، بعد أن قاتلت السوريين في صف الفلسطينيين، أي «فتح» يومها، واستولت على أحياء طرابلس الداخلية في 1983-1986، وتسلطت عليها قبل أن تحاصرها القوات السورية، وتقصفها قصفاً قاسياً، وتدخلها، وتستميل أجزاء من المنظمات والكتل والشلل التي قاتلتها.
فالحادثة الصغيرة و «الفردية»، على وصف «مجلس القيادة» لها، هي من ذيول التاريخ «القديم» هذا، ومن أصداء الحوادث القريبة، من «حرب» مخيم نهر البارد إلى اشتباكات الحيين العلوي والسني وجوارهما، فاغتيال الجنود اللبنانيين، ومبادرة سعد الحريري الى المصالحة، غداة تهمة الرئيس السوري، بشار الأسد طرابلس وشمال لبنان بإيواء «القاعدة» ومنظمات إرهابية وجهادية تتهدد أمن سورية. وطوال «حرب» مخيم نهر البارد، وقبل الحرب، دأبت الصحافة السورية، وأجهزة الإعلام، وأنصار الحكم السوري في لبنان، وإعلامهم، على تصوير «فتح – الإسلام»، والشلل الإسلامية «الجهادية» المحلية، في صورة أداة السنة اللبنانيين، وكتلة «المستقبل» وتياره. وحمّل أنصار السياسة السورية «السنية السياسية»، على قول ميشال عون، المسؤولية المباشرة عن مهاجمة «فتح – الإسلام» الجنود اللبنانيين، وقتلهم وهم نيام. واتهموا قوى الأمن الداخلي، وشعبة المعلومات فيها، وقيادتهما «الحريرية» والسنية، بحماية المنظمة الأصولية والإرهابية التي خلفت «فتح – الانتفاضة»، الفلسطينية المنبت والسورية الولاء، والتوسل بها.
أذرع «السلفية» وأقنعتها
والذيول والأصداء والحوادث نفسها، القديمة والجديدة، تناولها عمر كرامي – رئيس الحكومة الطرابلسي (سابقاً)، وأحد نواب الشمال (وطرابلس عاصمته) طوال الحقبة السورية. في خطبة رمضانية طويلة (في 13 أيلول). وثنى عليها، اليوم التالي، في حديث مستفيض الى «السفير». وهو عائد لتوه من زيارة الى دمشق، والتقى بشار الأسد. وحمل انفجار القتال في قلب طرابلس «القديمة»، واضطلاع جبل بعل محسن، وعلوييه وجماعات مسلحة تمت برابطة متينة الى دائرة الحكم العليا بسورية بالدور الاول في القتال، حملا الزعيم المحلي والبلدي على القول إنه لا يملك غير الانحياز الى «أهله» إذا استعدي هؤلاء أو ظلموا، وقاتل بعض أنصاره، وأهل عصبيته، في صف «الأهل».
وجاءت خطبة عمر كرامي الرمضانية رداً على المصالحة التي أراد سعد الحريري التوسط في عقدها. وسبق كرامي رد إعلام «حزب الله» وميشال عون. فنفى «الإعلامان» صفة الوسيط عن رئيس كتلة «المستقبل»، وحملاه على حزب مقاتل لا يحق له التوسط. ويضمر الطعن هذا في وساطة ركن «14 آذار» حشره في زمرة «السلفية» المتطرفة التي تضطلع السياسة السورية بمحاربتها في سورية نفسها، وفي جوارها اللبناني القريب والمتصل بالأراضي السورية، أرضاً وأهلاً. وعلى هذا، فمعارضة معظم السنة اللبنانيين، وهم انقلبوا «كيانيين» على قول ناشر «السفير» وأداروا ظهرهم للعروبة السورية، السياسة السورية وتسلطها على اللبنانيين بالقسر والعنف، هذه المعارضة هي في قرارتها «سلفية» وتشبه «السلفية» السورية. واضطلاع «الأمن» السوري، وأدواته المحلية بمكافحتها، أمنياً وسياسياً، جزء من حماية الحكم السوري المشروعة نفسه ومصالحه، وجزء من حمايته «الأمن العربي» الذي تتهدده اسرائيل وأميركا المتنقلة من «فشل الى فشل» على قول الرئيس السوري الى التلفزيون الإيراني (في 17 أيلول).
والمكافحة السورية هذه، ومسرحها الأول الأراضي اللبنانية وتتصدرها الأراضي «الطرابلسية»، تنخرط من وجه غير خفي في «الحرب» الأميركية والأوروبية، (ولمَ لا الدولية الروسية والصينية) «على الإرهاب». وكانت الأجهزة الأمنية السورية في شمال لبنان شنت حملة دامية، بواسطة اللبنانيين وجيشهم، على خلايا إسلامية سلفية ناشئة بطرابلس، في آخر أيام 1999 وأوائل العام 2000، حملتها حملاً على «الخروج» الى ضاحية طرابلس الريفية، وسحقتها، وقدمتها قرباناً وهدية مبكرين الى السياسة الأميركية (غداة عمليتي نيروبي ودار السلام، في 1998، وإعلان بن لادن والظواهري إنشاء «الجبهة العالمية» وحربها على «الصليبية واليهود»). والقربان والهدية هذان سيقا حجة على اندماج أمن سورية في الأمن الدولي الذي ترعاه السياسة الأميركية، وعلى جدارة القوة السورية بتولي «أمن» لبنان، والسيطرة على أجهزته الأمنية والعسكرية، وعلى جماعاته الأهلية والسياسية ودولته وكيانه تالياً. فمن وجه، تتولى القوة السورية رعاية الحزب الخميني المسلح، و «مقاومته الإسلامية»، وحربه على الاحتلال الإسرائيلي، وهذه مقاومة وطنية مشروعة (وتضبط القوة السورية شططها). ومن وجه آخر، تضطلع بحصتها من «الحرب على الإرهاب»، قبل صياغة شعارها. ويدعوها الى دورها الرائد «معاناتها» نتائج الإرهاب المسمومة في أعوام 1979-1982، وذروتها «حوادث» حماه الأصلية والمروعة. ولا تزال مخلفات الوقائع والنزاعات هذه، وشروطها ومقدماتها، حية في طرابلس والبلاد الطرابلسية. وتحييها، وتنفخ فيها، شلل وكتل وجمعيات وأحلاف وعائلات وولاءات وجرايات وتيارات ومدارس وأوقاف واستخبارات وأحوال اجتماعية رجراجة، وكثيرة المنازع، ومنها مجلس قيادة حركة التوحيد الإسلامي، وعشرات غيرها مثلها.
وحين تناول رئيس الحكومة السابق، والعائد من «الحج» الى قصر الرئاسة العروبي البعثي، «المسألة الطرابلسية» غداة بلورة بشار الأسد إياها قبل عشرة أيام في «القمة» العتيدة (أي إعلانه الطلب الى الرئيس اللبناني ميشال سليمان تخصيص طرابلس باللواء العاشر)، طرق من غير مواربة قلب المسألة. فوصف طرابلس، و «الوطن ككل»، بـ «الساحة». وفي خضم المنازعات يمتاز «اللبنانيون» ويُعرفون، بحسب الوالد والابن، بضعف تمييزهم القطب القومي القويم من الأوهام الأجنبية، وانسياق بعضهم وراء الأوهام هذه، وانخراطهم في منازعات لا نهاية لها من غير «حكمة» القيادة السورية وبوصلتها الثابتة. وكان الرئيس اللبناني السابق، إميل لحود، رفع هذه الفكرة، أي تجرد لبنان من هوية سياسية ووطنية خاصة، الى مرتبة العقيدة الرسمية.
و «الساحة» تعريفاً، مفتوحة على كل الاحتمالات»، يقول دولة الرئيس «الطرابلسي الشامي»، بحسب الراحلِ دولةِ الرئيس شقيقه قبله. ويستشهد على صدق رأيه وحدسه اغتيال صالح العريضي ببلدة بيصور في الغرب الدرزي قبل يومين من انعقاد مؤتمر الحوار ببعبدا. فيذهب الى ان الاغتيال وهو يصيب لأول مرة، سياسياً نصيراً للسياسة السورية، «رسالة للجميع تنبئ ان اسرائيل وعملاءها وأصحاب المشاريع الخطيرة من أجل إنشاء الشرق الأوسط الجديد لا تزال سارية المفعول». ولا يدعو عمرَ كرامي، أو سياسياً آخر من صفه، داعٍ الى الحياد عن خط التعليل هذا، أو الى التدقيق فيه وتكييفه. فقد يدعو الى التدقيق، على سبيل المثل، تقصد القتل رجلاً هو مساعد حليف للسياسة السورية اضطلع بدو بارز في الوساطة بين الحزب الخميني المسلح وبين الجماعة الدرزية الجبلية و «الساحلية» (الشويفات وبيروت) على أثر مهاجمة الحزب المسلح، وبعض أنصاره «القوميين السوريين»، في 8 و9 أيار (مايو) الأهالي والحزبيين الجنبلاطيين. وانتهت الواقعة بانكفاء المهاجمين، وبخسارتهم عدداً غير معروف من القتلى، وبوقوع عشرات من مسلحيهم ومقاتليهم في الأسر، وبرفع الحصار عن وليد جنبلاط ببيروت. وغداة هجوم الباروك وقع ألفان من مشايخ الدروز بياناً جهر وحدة الصف الدرزي بوجه انتهاك البلاد والديرة الأهلية الدرزية (أو ما سماه وليد جنبلاط في 1983 «الأرض والعرض») ودعا الى كف العدوان. ووالد صالح العريضي، صريع الاغتيال الأول من صنفه، هو أحد أعيان المشايخ هؤلاء. وولده، مساعد أرسلان، أدى دوراً نشطاً في جبه العدوان العسكري، وفي اعلان البيان الحازم والحاسم. وحصلت الحادثة في دائرة سكن شهدت قيام الدروز على المسيحيين، حين اغتيال كمال جنبلاط في آذار (مارس) 1977، بيد استخباراتية سورية معروفة.
فتوسطَ مقدم الجناح اليزبكي الارسلاني لوليد جنبلاط، مقدم الجناح الآخر، لدى الرئيس السوري، ولدى الحزب الخميني. وكان التقارب حمل وليد جنبلاط على اعتبار «هدوء الجبل» أولوية، وتذرع بها الى إسناد وزارة «عاملة» الى طلال ارسلان، الضلع الثالث في حلف دائرة بعبدا – عاليه، الى الضلعين الشيعي والماروني. وغداة «اتفاق الدوحة»، في منتصف أيار، غمز الزعيم الدرزي، أحد أركان «14 آذار»، من قناة «القوات اللبنانية» وموقفها في المفاوضات الوزارية. وفي غمرة الاشتباكات الطرابلسية، الداخلية، ندد بضلوع «قوى كبرى» في الاشتباكات هذه، مسايراً الرأي السوري في المسألة. وحين اغتيال صالح العريضي ذهب ركن «14 آذار» الجبلي الى ان الاغتيال هذا قرينة على وقوف «البلد» في مهب «المشاريع» المتضاربة. وهذا قريب من الرأي الذي يذهب اليه عمر كرامي وأصحابه، ويكرره ساسة سورية. وعلى الجهة الارسلانية، حمل التقارب حليف ارسلان القريب، وئام وهاب، على الطعن في الهدنة الطارئة، ورضا ارسلان بتبرئة والد وائل أبو فاعور، مساعد وليد جنبلاط القريب وأحد الناطقين المأذونين باسم «قوى 14 آذار»، من مقتل حليف يزبكي محلي.
ولا يستوقف هذا، وغيره مثله كثير، السياسي الطرابلسي العائد من القاهرة وطهران ودمشق. ويشترط الخطيب «الأمن والأمن والأمن» شرطاً للمصالحة. وشرط الأمن «تجريد طرابلس من كل السلاح». وتشخيص المشكلة والعلاج معقولان. والأرجح أن يكون الوجه الأهلي صادقاً في تشخيصه، وفي اقتراح علاجه. ولعل صدقه هذا دعاه الى القول، قبل أسابيع قليلة، أن امتحان «أهله» يحمله على حمايتهم ونصرتهم. ولكنه لا يلبث أن يعود أدراجه الى الكنف السوري. فيساوي المسلحين بعضهم ببعض، وهم متفاوتون. فبعضهم منكفئون على عصبية مذهبية وأهلية، وتربطهم بـ «أهلهم»، وبني عمومتهم وخؤولتهم في الساحل السوري والمحافظة الجبلية والحكم بدمشق، أواصر قوية وثابتة. فهم «مستعمرة» على المعنى اليوناني القديم والتركي (القبرصي) في وسط أهلي مختلف. وحمايتهم من «الكتلة» الأهلية الأخرى، وهي تُرى واحدة وعدوة ومتغلبة، تتصدر مشاغل أهلهم، وقيادة الأهل «السياسة» والعسكرية والأمنية، في الموطن الأم. وبعثت الحال هذه النائب العلوي الذي انتخب في عداد «14 آذار» الى الارتداد على التزامه الأول.
وفي مقابلة هؤلاء، ونظيرهم، وسط أهلي ومحلي متفرق ومتنافر. والخطيب جزء من أهل الوسط هذا، ومظهر من مظاهر تفرقه وتنافره. وهو سخر من نسبة أحد المسلحين، وشلته، اليه من غير أن ينكرها. وليس ذلك الا لعلمه بأن صاحبه وأصحاب غيره من الوجهاء، من ذيول حال أهلية واجتماعية متجددة، مصدرها الأول استنقاع الاجتماع الطرابلسي، ودوراته في دائرة علاقات أهلية يكبلها العدد، والهجرة الريفية، وضعف الموارد، وضيق مرافق العمل وعجزها عن المنافسة والتوسع، وشح الاستثمار وإحجام المستثمرين عن المغامرة، وانكفاء النخب القديمة والمحدثة على «حصونها» و «أنفاقها». وتوسلت المنظمات الفلسطينية المسلحة، شأن الحركات الحزبية والاستخباراتية السورية بأحوال طرابلس هذه ونطاقها الريفي، و بـ» «الرضة» التاريخية التي فصلت المدينة وأرباضها من النطاق العثماني و «السوري»، الى إرساء المنازعات السياسية، أو الانتخابية التمثيلية ومنافعها المباشرة، على المنازعات والأحلاف العصبية المضطربة والرجراجة.
الدولة و «الدولة»
والتسلح، على مراتبه، و «المال» على أصنافه، وجهان من وجوه المنازعات، والأحلاف والتفرق. وحين يدعو الخطيب الى «تجريد طرابلس من كل السلاح»، فدعوته، إنما هي من قبيل التمني. وتشبه دعوة أخرى، طرابلسية ووطنية (لبنانية عامة) مزمنة، هي الدعوة الى إنماء طرابلس. وإطلاق الدعوة على هذا النحو، ومساواة التسلح «الجبلي» المنظم والمحترف بالتسلح المرتجل والعشوائي في سائر المدينة، وأحيائها القريبة من جبل بعل محسن، يقصد بهما تحميل الدولة اللبنانية، ورئاسة الحكومة «الحريرية»، أثقالاً لا قبل لهما بها.
وكرامي ينسج على منوال «المعارضة»، أي «الحزب» السوري وصدارته الخمينية الإيرانية. فهو، شأن «حزبه»، يتنصل من المسؤولية عن أحوال ووقائع ضلع فيها، ولا يزال ضالعاً، إلى أذنيه. ويحض، من جهة أخرى، على «الهيبة»، والعلاج الحاسم بـ «الأمن الشرعي». ولا ينكر على حلفائه وأصحابه كسرهم «الأمن الشرعي» حيث قدروا، في طرابلس نفسها، وجوارها الزغرتاوي، وفي عكار، والكورة، وساحل الجبل الى بيروت والضاحية، الى الجنوب بقضه وقضيضه، والبقاع ونواحيه وسهله ونجده (أعاليه)، وعسكرتهم العلاقات والمنازعات الأهلية والسياسية، وتسللهم، خبراء قتال وسلاحاً، الى «الديار» اللبنانية كلها. ومناشدة «الأمن الشرعي» الظاهرة تولي نزع السلاح كله تشبه «اقتراح» الرئيس السوري على زائره ونظيره اللبناني. وهذه عودة لا لبس فيها الى 1972 – 1976، حين أعجزت المنظمات الفلسطينية المسلحة، وفروعها السورية الناشطة، وحلفاؤها وخصومها المحليون، الدولة اللبنانية عن تولي الأمن الوطني الداخلي، وأمن الحدود الوطنية، بـ «قواها الذاتية». فمهد العجز الطريق الى مناشدة الجار والشقيق المدجج بالسلاح، نزع «كل السلاح» من لبنان»كله» «بقبضة من حديد».
والحق أن رئيس الحكومة السابق يشخص الحال تشخيص العارف. فيقول، وقد خلف وراء ظهره الشرق الأوسط الجديد و «المشاريع الخطيرة» و «إسرائيل وعملاءها»ـ يقول: «طالما ان جميع الموجودين على الساحة مسلحون لا يزالون في مقارهم ومكاتبهم، لا يزال الخطر قائماً، لأن أي دعسة ناقصة من أي مكان أو أي فتنة أو أي حادث عابر ربما يفسد كل شيء ويقوض كل شيء لا سمح الله». وترجمة القول، الواضح ظاهراً والملغز باطناً، أن تسلح «الجميع» من «حزب الله» (منطقياً) الى «مجلس قيادة حركة التوحيد الإسلامي» والقبضاي الملقب بـ «الدكرور»، نصير كرامي نفسه، و «المردة» و «القوات اللبنانية» الخ – يمكِّن ذرات هذا «الجميع» وأجزاءه التي لا تحصى، مهما صغرت وتضاءلت من جره كله الى «التقويض» و «الفساد» و «الفتنة»، أو جره الى شفيرها، وصلبه على الشفير هذا. فحال لبنان واللبنانيين اليوم، غداة 3 أعوام ونصف العام من اغتيال رفيق الحريري وجلاء القوات السورية عن الأراضي السورية (تقريباً) وحكومة غالبية «14 آذار»، هي على ما يصفها الرجل الذي اغتيل رفيق الحريري في أثناء رئاسته الحكومة فاستقال مستثقلاً المسؤولية المعنوية عن الاغتيال. وهذه حال دقيقة التركيب والصنع: فهي «تَعِد» المسلحين كلهم، كبارهم وصغارهم، بالقدرة على ربط فعلاتهم المحلية والموضعية بالمصائر الوطنية و «الكيانية» العامة والكبيرة.
وهذا «نظام سياسي» كامل الهيئة، ومتماسك الفعل والتداعي. وهو لم يولد من «الشرق الأوسط الجديد»، ولا يؤدي اليه، على رغم فوضاه العظيمة. ويقتضي ضبط «النظام» الهائج هذا، والمنطوي على تداعيات لا تحصر، قوة عظيمة مثله أو تفوقه «عظمة». وينبغي أن تكون «الدولة» هذه القوة، وأن تتولى هي «قبضة الحديد في كل لبنان». والدولة اللبنانية القائمة ليست «الدولة» المخولة تجريد أحد من السلاح. فهي، متحدرة من «القرار 1559 وما تبعه من قرارات». ويقصد عمر كرامي بالقرارات هذه اخراج القوات «العربية» السورية من لبنان، وبسط سلطة الدولة على السلاح الفلسطيني خارج المخيمات، وترسيم الحدود اللبنانية – السورية والمطالبة بتبادل البلدين الجارين التمثيل الديبلوماسي، وإقرار انشاء محكمة مختلطة دولية – لبنانية تقاضي قتلة رفيق الحريري والمخططين والمتورطين. ويقصد حكومة فؤاد السنيورة والغالبية النيابية التي خرجت من اقتراع اللبنانيين. وواسطة عقد القرارات والمطاليب هي، من غير شك، القرار في شأن منظمة أو بنية «حزب الله» المسلحة والاستخبارية، عماد دوره السياسي العسكري والأمني. وهذا رأي «الحزب» السوري وساسته الفعليين في دمشق وطهران. وهو يلخص تأريخهم للحوادث والوقائع الوطنية والإقليمية.
فماذا يبقى من الدولة القائمة؟ «التعويض على القتلى والجرحى واصلاح البيوت...»، أولاً، و «على المدى المتوسط والمدى البعيد... تحقيق المشاريع الأساسية: المعرض (معرض طرابلس الدولي) والمرفأ والمطار». وهي القسمة السورية المرجوة والفعلية منذ اتفاق الطائف. فيعود السلطان، أي السلطة الفعلية والبت في «حال الطوارئ» على الحدود وفي الداخل، الى «الحزب» السوري وطبقاته. فإذا شكك لبناني (أو سوري أو عربي) في القسمة هذه، قتل إذا كان في المتناول قتله أو وصم بالسعي بين يدي «الشرق الأوسط الجديد».
فيسأل عمر كرامي من طرابلس: «لأي دولة تسلم المقاومة سلاحها؟. عندنا دويلات...». والدولة الشكلية أو «الوهمية»، على قول ميشال عون، هي وليدة القرار 1559. و «هل أعددنا الجيش ليكون قادراً على الدفاع عن لبنان بعديده وعتاده؟». والجواب بالنفي. وإذا مدح قائد الجيش السابق، والرئيس الحالي، مدحه العائد من طهران ودمشق بـ «حياده» في أثناء حملة «المقاومين الإسلاميين» ومساعديهم على بيروت والجبل والشمال. ويسكت الخطيب عن أن اجراءات التسليح الجدية بمروحيات «كوبرا» محل «غازيل» المنزوعة السلاح (بشرط سوري على مصر)، لم تحم الطيارين المتدربين من الرصاص. وأما الانتخابات الآتية، بموجب قانون 1960 الذي رجح ساسة سورية في الدولة كفته، فهي شيئان: «نعول عليها الآمال الكبيرة»، وتؤدي الى «قيام فيديراليات طائفية»، في آن. وينتظر «دولة الرئيس» الطرابلسي، و «الأفندي» الثاني، أن «تفوز بهذه الانتخابات القيادات اللبنانية الصحيحة»، لتتحاور الحوار «المنطقي» و «الوطني» و «الانقاذي». والتعويل على الانتخابات الآتية، وعلى «تصحيحها» التمثيل النيابي، أو «حركتها التصحيحية»، لم يكتمه الناطقون باسم الرئيس السوري، نائبه فاروق الشرع وديبلوماسيه الأول وليد المعلم.
قطب الزاروب وقطب الأمة
وبعد وقت قليل من ختام الجلسة الأولى من «الحوار» ببعبدا، كان أمين عام الحزب الخميني المسلح والأمني ينص على شروطه «الحوارية». وكان خطباؤه ومندوبوه الى الكلام أخرجوا بنيته العسكرية والاستخبارية من «السؤال»، على قول أحد هؤلاء. وحسم حليفه المسألة بإحالتها الى «خبراء» من البنية المسلحة والاستخبارية ومن الجيش، واستثناء السياسيين من الولوغ («التخبيص») فيها. وذهب بعض آخر الى طلب توسيع المناقشة الى موضوعات داهمة مثل «الوضع الاقتصادي والمعيشي»، أو الى قسم المعلومات في قوى الأمن الداخلي. فبنى زعيم «المقاومة الإسلامية» على «حرب تموز» (يوليو) 2006، وعلى تغييرها «كثيراً من المدارس القتالية والعسكرية في العالم» («بتواضع»)، وعلى «أدوار في الحرب (أدتها) قوى سياسية في لبنان»، هي فصائل من «الحزب» السوري - بنى على هذا ليختصر السياسة، والحياة السياسية، والطاقم السياسي، في ميزانه هو، وميزان وظيفته ودوره.
ويبطل الميزان هذا احتمالات العمل السياسي وميادينه وهيئاته سلفاً. فالذين أودى بهم جلاء القوات السورية، وأبطل انتخابهم بواسطة اللوائح القسرية و «الودائع» واقتراع الدوائر المختلطة والواسعة والخدمات وترهيب المنافسين والإعلام المضلل والسطو على المالين الخاص والعام، وهذه من أدوات «الأخوة والتنسيق والتعاون»، هؤلاء كلهم تمنحهم «المقاومة الإسلامية» فرص استلحاق مفتوحة. ومادة الاستلحاق، وحيدة وواحدة: «الوقوف بجانب المقاومة». فمن وقف «الوقفة» هذه، ورأى رأس هرم «المقاومة الإسلامية» العسكري والأستخباري انه وقفها، فجزاؤه قيادة «الدولة». وأما «الحوار» فيحاور جورج الخامس جورج الخامس، على قول سعد زغلول في 1919.
والتخيير بين «النظام» السوري – اللبناني («العروبي») وبين الحياة اللبنانية المعقدة يتوسل اليه «الحزب» السوري، المحلي والإقليمي – والدولي ربما منذ اجتياح الجيش الروسي جورجيا وضم أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا - بعشرات «اللاعبين» المحليين من أمثال عمر كرامي و «مجلس قيادة حركة التوحيد الإسلامي»، وبأجهزة سياسية وأهلية عسكرية وأمنية ووطنية. وعشرات اللاعبين هؤلاء يتولون، من تلقائهم أو بإيحاء من غرفة عمليات مركزية، إذكاء جبهات ومحاور اشتباك أهلية وموضعية لا تحصى ذرائعها ولا تنضب. وتضرب الذرائع هذه بسابقاتها وثاراتها في عمق تاريخ الجماعات والبلاد والمعتقدات والأنساب. ولعل المناقشة التي ثارت في صدد ظهور يوسف الشاب فرنجية، قتيل بصرما بالكورة، في شريط مقتلة أهدن (1978) التي «أحيا» تلفزيون ميشال عون ذكراها الثلاثين وبثها مرتين، قرينة على تناسل الذرائع. وعندما ترد بيانات إيلي سكاف، وكتلته الشعبية برحلة، على تهمة حزب الكتائب (وهو خسر قتيلين قبل نحو ثلاثة أشهر) سكاف بـ «الإقطاعية» - تنبش البيانات سجلات الحروب المحلية، وتجدد حروبَ العامة على المقدمين. وهي تعود الى القرن الرابع عشر، والى معظم عقود القرن العشرين. وسؤال وئام وهاب، قبل ميشال عون بأسبوع تام، عما كانت تصنع طوافة الجيش، ووسام حنا، في سجد، رجع صدى لسؤال تردد في جزين مع حط مهاجري الجبل رحالهم في بلاد المتاولة قبل خمسة قرون.
وعلى هذا، في مستطاع «الحزب» السوري، الكثير والواحد، وقوته السياسية والعسكرية والاستخباراتية الجامعة، بوجهيها الإقليمي والوطني، أن يتسلل من غير جهد، غداة أربعين سنة من الولوغ في «إدارة» الجبهات والمحاور واستيلادها، الى ثنايا الجماعات. وهو يعود فيربطها بحبل متصل وواحد هو جبهة التصدي «للشرق الأوسط الجديد» أو «الكبير». ويتولى جبهة التصدي هذه «الشرق الأوسط الإسلامي»، الإيراني الشيعي والحرسي، ومواليه المحليون، وعماله الموظفون. والعملية المزدوجة هذه – بوجهيها: التفتيت نزولاً الى «مجلس قيادة» منشق عن انشقاق عن انشقاق، والجمع اصعاداً الى قطب دولي «يكاسر» القوة الأميركية – ينجم عنها نظام يتوالد، و «يعيد انتاج» نفسه. وهو قادر على التوسع، وضم ولايات جديدة اليه. و «الولاية» العونية، أو الإقليم العوني، برهان الزعم وصدقه. ولهجة الإقليم علامة على تجديد لغات السياسة على نحو «مذهل» («العهد» الحزب اللهية). وهو ينوي صيد الرئيس سليمان في شباكه. ونهج عمل النظام هو ما لم يُغفل بيان أو تصريح «سوري» واحد، في صحف 20 و21 أيلول الجاري، التنديد به: «الفتنة المتنقلة» عن يد القطبين، قطب الزاروب وقطب «الأمة»، والمتنقل بينهما من غير وازع.
فلا عجب إذا بدا السير في غابة النظام القومي – المذهبي والحرسي، أي «العمل» السياسي فيه، ضرباً من التكهن والعرافة اليائسين. واعلان رجل سياسة أهلية عريق مثل وليد جنبلاط تشخيصه «مرحلة دقيقة»، أو «خطرة»، بين الوقت والوقت، وهو في قلب الغابة هذه، مثلنا كلنا، يدعو الى الدهشة والحزن معاً، شأن حالنا كلنا كذلك. فليس من طرق أو شعاب في غابة النظام القومي – المذهبي والحرسي، ولا محجة فيه ولا جهات. واختبر هذا النظام، لبنانياً واقليمياً، في مسير معقد وطويل مرت فصوله، منذ الاغتيال الكبير، بالانتخابات فالاغتيالات فالإعدامات والحرب الإقليمية وحروب البؤر الضيقة والعريضة فتعليق الهيئات فأعمال التأديب، الى مزيج من هذه كلها، اليوم. ونصب «الدولة» جهة ومقصداً، حين لا يكاد الواحد يرى يده وهو ينظر اليها ولا يميز أخاه من الذئب، ونصب الحوار طريقة ومنهجاً، حين لا تستقر كلمة على معنى متعارف ومشترك، هذا النصب يصدر عن رغبة صادقة في تبين موضع القدم. وهي رغبة ينبغي، أخلاقياً وسياسياً، التمسك بها حقيقة، لا كذباً ولا مقايضة. ولكن الأرجح على الظن أن سبيل العمل المجدي مختلف ربما. فالسبيل الى دولة لبنانية وطنية هو انشاء «قوى 14 آذار»، من لبنات الحياة والتقاليد اللبنانية، نظاماً نقيضاً، سياسياً وأخلاقياً، على المحاور والجبهات والخطوط والخنادق القومية – المذهبية والحرسية كلها. وموارد القوى هذه، في عملية الإنشاء الطويلة، غنية وكثيرة. وهي ميراث قرون من فعل تاريخي أنجب حياة، متعثرة ومترنحة من غير شك، ولكنها حياة «لتكون حياة وحياة أفضل»، على ما قرأ فؤاد السنيورة، وهو يصعد درج الجامعة الأميركية ببيروت من داخل، وتذكر وذكر.
حين كان المتحاورون اللبنانيون الأربعة عشر، من غير احتساب مدير الحوار رئيس الجمهورية، يدخلون قاعة الاستقلال في القصر الجمهوري ببعبدا، في 16 أيلول (سبتمبر)، ويستمعون إلى خطبة الافتتاح الرئاسية، كان بلغهم وقوع حوادث يعود بعضها إلى اليوم السابق، وبعضها إلى أيام قليلة سبقته، ولا تزال تجر آثارها وذيولها إلى اليوم العتيد. فوقعت حادثة بين مجلس القيادة في حركة التوحيد الإسلامي، وعلى رأسه أحد معاوني أمير «حركة التوحيد» الراحل الشيخ سعيد شعبان، الشيخ هاشم منقارة، وبين نصير هيئة طوارئ جبهة العمل الإسلامي، المنشقة عن الجبهة (وعلى رأسها «الداعية» فتحي يكن). والحادثة هذه ذيل من ذيول الاشتباكات التي انفجرت بين جبل بعل محسن (العلوي) وبين باب القبة ومحلة البقار (السنيين) بطرابلس، ودامت أسابيع. وتوجها اغتيال عشرة جنود، كانوا يهمون باستقلال حافلة نقل صبيحة زيارة الرئيس ميشال سليمان الى دمشق بعبوة انفجرت فيهم. وغداة الاغتيال هذا، وعزي إلى ثأر «فتح – الإسلام»، المنظمة «الفلسطينية» الجهادية التي نبتت في مخيم نهير البارد قبيل اشتعاله طوال 7 أشهر (انتهت في أيلول/ سبتمبر 2007)، قتل في أثنائها 170 عسكرياً لبنانياً - ذهب سعد الحريري، رئيس كتلة «المستقبل» النيابية، الى طرابلس، وتعهد «مصالحة» المتقاتلين، وجمع أعيان المدينة الأهليين والسياسيين، ومعظم الأعيان السنّة هم من حلفائه وأنصاره.
وجبهة العمل الإسلامي – هيئة الطوارئ تكتل انشق عن جبهة العمل الإسلامي، وعلى رأسها فتحي يكن المنشق عن الجماعة الإسلامية، والموالي السياسة السورية وحليف أنصارها وحلفائه في لبنان وشريكهم في ولائهم وسياستهم وتظاهراتهم واعتصاماتهم باسم «السنة». فهيئة الطوارئ هي، على هذا، من حلفاء سعد الحريري. وتلصق الجبهة الأم بها تهمة التبعية المالية والأمنية للحريري والحكومة. ومجلس قيادة حركة التوحيد الإسلامي منظمة إسلامية محلية من المنظمات المتناسلة من حركة التوحيد. وهذه تحولت أداة استخباراتية، سورية وإيرانية، بعد أن قاتلت السوريين في صف الفلسطينيين، أي «فتح» يومها، واستولت على أحياء طرابلس الداخلية في 1983-1986، وتسلطت عليها قبل أن تحاصرها القوات السورية، وتقصفها قصفاً قاسياً، وتدخلها، وتستميل أجزاء من المنظمات والكتل والشلل التي قاتلتها.
فالحادثة الصغيرة و «الفردية»، على وصف «مجلس القيادة» لها، هي من ذيول التاريخ «القديم» هذا، ومن أصداء الحوادث القريبة، من «حرب» مخيم نهر البارد إلى اشتباكات الحيين العلوي والسني وجوارهما، فاغتيال الجنود اللبنانيين، ومبادرة سعد الحريري الى المصالحة، غداة تهمة الرئيس السوري، بشار الأسد طرابلس وشمال لبنان بإيواء «القاعدة» ومنظمات إرهابية وجهادية تتهدد أمن سورية. وطوال «حرب» مخيم نهر البارد، وقبل الحرب، دأبت الصحافة السورية، وأجهزة الإعلام، وأنصار الحكم السوري في لبنان، وإعلامهم، على تصوير «فتح – الإسلام»، والشلل الإسلامية «الجهادية» المحلية، في صورة أداة السنة اللبنانيين، وكتلة «المستقبل» وتياره. وحمّل أنصار السياسة السورية «السنية السياسية»، على قول ميشال عون، المسؤولية المباشرة عن مهاجمة «فتح – الإسلام» الجنود اللبنانيين، وقتلهم وهم نيام. واتهموا قوى الأمن الداخلي، وشعبة المعلومات فيها، وقيادتهما «الحريرية» والسنية، بحماية المنظمة الأصولية والإرهابية التي خلفت «فتح – الانتفاضة»، الفلسطينية المنبت والسورية الولاء، والتوسل بها.
أذرع «السلفية» وأقنعتها
والذيول والأصداء والحوادث نفسها، القديمة والجديدة، تناولها عمر كرامي – رئيس الحكومة الطرابلسي (سابقاً)، وأحد نواب الشمال (وطرابلس عاصمته) طوال الحقبة السورية. في خطبة رمضانية طويلة (في 13 أيلول). وثنى عليها، اليوم التالي، في حديث مستفيض الى «السفير». وهو عائد لتوه من زيارة الى دمشق، والتقى بشار الأسد. وحمل انفجار القتال في قلب طرابلس «القديمة»، واضطلاع جبل بعل محسن، وعلوييه وجماعات مسلحة تمت برابطة متينة الى دائرة الحكم العليا بسورية بالدور الاول في القتال، حملا الزعيم المحلي والبلدي على القول إنه لا يملك غير الانحياز الى «أهله» إذا استعدي هؤلاء أو ظلموا، وقاتل بعض أنصاره، وأهل عصبيته، في صف «الأهل».
وجاءت خطبة عمر كرامي الرمضانية رداً على المصالحة التي أراد سعد الحريري التوسط في عقدها. وسبق كرامي رد إعلام «حزب الله» وميشال عون. فنفى «الإعلامان» صفة الوسيط عن رئيس كتلة «المستقبل»، وحملاه على حزب مقاتل لا يحق له التوسط. ويضمر الطعن هذا في وساطة ركن «14 آذار» حشره في زمرة «السلفية» المتطرفة التي تضطلع السياسة السورية بمحاربتها في سورية نفسها، وفي جوارها اللبناني القريب والمتصل بالأراضي السورية، أرضاً وأهلاً. وعلى هذا، فمعارضة معظم السنة اللبنانيين، وهم انقلبوا «كيانيين» على قول ناشر «السفير» وأداروا ظهرهم للعروبة السورية، السياسة السورية وتسلطها على اللبنانيين بالقسر والعنف، هذه المعارضة هي في قرارتها «سلفية» وتشبه «السلفية» السورية. واضطلاع «الأمن» السوري، وأدواته المحلية بمكافحتها، أمنياً وسياسياً، جزء من حماية الحكم السوري المشروعة نفسه ومصالحه، وجزء من حمايته «الأمن العربي» الذي تتهدده اسرائيل وأميركا المتنقلة من «فشل الى فشل» على قول الرئيس السوري الى التلفزيون الإيراني (في 17 أيلول).
والمكافحة السورية هذه، ومسرحها الأول الأراضي اللبنانية وتتصدرها الأراضي «الطرابلسية»، تنخرط من وجه غير خفي في «الحرب» الأميركية والأوروبية، (ولمَ لا الدولية الروسية والصينية) «على الإرهاب». وكانت الأجهزة الأمنية السورية في شمال لبنان شنت حملة دامية، بواسطة اللبنانيين وجيشهم، على خلايا إسلامية سلفية ناشئة بطرابلس، في آخر أيام 1999 وأوائل العام 2000، حملتها حملاً على «الخروج» الى ضاحية طرابلس الريفية، وسحقتها، وقدمتها قرباناً وهدية مبكرين الى السياسة الأميركية (غداة عمليتي نيروبي ودار السلام، في 1998، وإعلان بن لادن والظواهري إنشاء «الجبهة العالمية» وحربها على «الصليبية واليهود»). والقربان والهدية هذان سيقا حجة على اندماج أمن سورية في الأمن الدولي الذي ترعاه السياسة الأميركية، وعلى جدارة القوة السورية بتولي «أمن» لبنان، والسيطرة على أجهزته الأمنية والعسكرية، وعلى جماعاته الأهلية والسياسية ودولته وكيانه تالياً. فمن وجه، تتولى القوة السورية رعاية الحزب الخميني المسلح، و «مقاومته الإسلامية»، وحربه على الاحتلال الإسرائيلي، وهذه مقاومة وطنية مشروعة (وتضبط القوة السورية شططها). ومن وجه آخر، تضطلع بحصتها من «الحرب على الإرهاب»، قبل صياغة شعارها. ويدعوها الى دورها الرائد «معاناتها» نتائج الإرهاب المسمومة في أعوام 1979-1982، وذروتها «حوادث» حماه الأصلية والمروعة. ولا تزال مخلفات الوقائع والنزاعات هذه، وشروطها ومقدماتها، حية في طرابلس والبلاد الطرابلسية. وتحييها، وتنفخ فيها، شلل وكتل وجمعيات وأحلاف وعائلات وولاءات وجرايات وتيارات ومدارس وأوقاف واستخبارات وأحوال اجتماعية رجراجة، وكثيرة المنازع، ومنها مجلس قيادة حركة التوحيد الإسلامي، وعشرات غيرها مثلها.
وحين تناول رئيس الحكومة السابق، والعائد من «الحج» الى قصر الرئاسة العروبي البعثي، «المسألة الطرابلسية» غداة بلورة بشار الأسد إياها قبل عشرة أيام في «القمة» العتيدة (أي إعلانه الطلب الى الرئيس اللبناني ميشال سليمان تخصيص طرابلس باللواء العاشر)، طرق من غير مواربة قلب المسألة. فوصف طرابلس، و «الوطن ككل»، بـ «الساحة». وفي خضم المنازعات يمتاز «اللبنانيون» ويُعرفون، بحسب الوالد والابن، بضعف تمييزهم القطب القومي القويم من الأوهام الأجنبية، وانسياق بعضهم وراء الأوهام هذه، وانخراطهم في منازعات لا نهاية لها من غير «حكمة» القيادة السورية وبوصلتها الثابتة. وكان الرئيس اللبناني السابق، إميل لحود، رفع هذه الفكرة، أي تجرد لبنان من هوية سياسية ووطنية خاصة، الى مرتبة العقيدة الرسمية.
و «الساحة» تعريفاً، مفتوحة على كل الاحتمالات»، يقول دولة الرئيس «الطرابلسي الشامي»، بحسب الراحلِ دولةِ الرئيس شقيقه قبله. ويستشهد على صدق رأيه وحدسه اغتيال صالح العريضي ببلدة بيصور في الغرب الدرزي قبل يومين من انعقاد مؤتمر الحوار ببعبدا. فيذهب الى ان الاغتيال وهو يصيب لأول مرة، سياسياً نصيراً للسياسة السورية، «رسالة للجميع تنبئ ان اسرائيل وعملاءها وأصحاب المشاريع الخطيرة من أجل إنشاء الشرق الأوسط الجديد لا تزال سارية المفعول». ولا يدعو عمرَ كرامي، أو سياسياً آخر من صفه، داعٍ الى الحياد عن خط التعليل هذا، أو الى التدقيق فيه وتكييفه. فقد يدعو الى التدقيق، على سبيل المثل، تقصد القتل رجلاً هو مساعد حليف للسياسة السورية اضطلع بدو بارز في الوساطة بين الحزب الخميني المسلح وبين الجماعة الدرزية الجبلية و «الساحلية» (الشويفات وبيروت) على أثر مهاجمة الحزب المسلح، وبعض أنصاره «القوميين السوريين»، في 8 و9 أيار (مايو) الأهالي والحزبيين الجنبلاطيين. وانتهت الواقعة بانكفاء المهاجمين، وبخسارتهم عدداً غير معروف من القتلى، وبوقوع عشرات من مسلحيهم ومقاتليهم في الأسر، وبرفع الحصار عن وليد جنبلاط ببيروت. وغداة هجوم الباروك وقع ألفان من مشايخ الدروز بياناً جهر وحدة الصف الدرزي بوجه انتهاك البلاد والديرة الأهلية الدرزية (أو ما سماه وليد جنبلاط في 1983 «الأرض والعرض») ودعا الى كف العدوان. ووالد صالح العريضي، صريع الاغتيال الأول من صنفه، هو أحد أعيان المشايخ هؤلاء. وولده، مساعد أرسلان، أدى دوراً نشطاً في جبه العدوان العسكري، وفي اعلان البيان الحازم والحاسم. وحصلت الحادثة في دائرة سكن شهدت قيام الدروز على المسيحيين، حين اغتيال كمال جنبلاط في آذار (مارس) 1977، بيد استخباراتية سورية معروفة.
فتوسطَ مقدم الجناح اليزبكي الارسلاني لوليد جنبلاط، مقدم الجناح الآخر، لدى الرئيس السوري، ولدى الحزب الخميني. وكان التقارب حمل وليد جنبلاط على اعتبار «هدوء الجبل» أولوية، وتذرع بها الى إسناد وزارة «عاملة» الى طلال ارسلان، الضلع الثالث في حلف دائرة بعبدا – عاليه، الى الضلعين الشيعي والماروني. وغداة «اتفاق الدوحة»، في منتصف أيار، غمز الزعيم الدرزي، أحد أركان «14 آذار»، من قناة «القوات اللبنانية» وموقفها في المفاوضات الوزارية. وفي غمرة الاشتباكات الطرابلسية، الداخلية، ندد بضلوع «قوى كبرى» في الاشتباكات هذه، مسايراً الرأي السوري في المسألة. وحين اغتيال صالح العريضي ذهب ركن «14 آذار» الجبلي الى ان الاغتيال هذا قرينة على وقوف «البلد» في مهب «المشاريع» المتضاربة. وهذا قريب من الرأي الذي يذهب اليه عمر كرامي وأصحابه، ويكرره ساسة سورية. وعلى الجهة الارسلانية، حمل التقارب حليف ارسلان القريب، وئام وهاب، على الطعن في الهدنة الطارئة، ورضا ارسلان بتبرئة والد وائل أبو فاعور، مساعد وليد جنبلاط القريب وأحد الناطقين المأذونين باسم «قوى 14 آذار»، من مقتل حليف يزبكي محلي.
ولا يستوقف هذا، وغيره مثله كثير، السياسي الطرابلسي العائد من القاهرة وطهران ودمشق. ويشترط الخطيب «الأمن والأمن والأمن» شرطاً للمصالحة. وشرط الأمن «تجريد طرابلس من كل السلاح». وتشخيص المشكلة والعلاج معقولان. والأرجح أن يكون الوجه الأهلي صادقاً في تشخيصه، وفي اقتراح علاجه. ولعل صدقه هذا دعاه الى القول، قبل أسابيع قليلة، أن امتحان «أهله» يحمله على حمايتهم ونصرتهم. ولكنه لا يلبث أن يعود أدراجه الى الكنف السوري. فيساوي المسلحين بعضهم ببعض، وهم متفاوتون. فبعضهم منكفئون على عصبية مذهبية وأهلية، وتربطهم بـ «أهلهم»، وبني عمومتهم وخؤولتهم في الساحل السوري والمحافظة الجبلية والحكم بدمشق، أواصر قوية وثابتة. فهم «مستعمرة» على المعنى اليوناني القديم والتركي (القبرصي) في وسط أهلي مختلف. وحمايتهم من «الكتلة» الأهلية الأخرى، وهي تُرى واحدة وعدوة ومتغلبة، تتصدر مشاغل أهلهم، وقيادة الأهل «السياسة» والعسكرية والأمنية، في الموطن الأم. وبعثت الحال هذه النائب العلوي الذي انتخب في عداد «14 آذار» الى الارتداد على التزامه الأول.
وفي مقابلة هؤلاء، ونظيرهم، وسط أهلي ومحلي متفرق ومتنافر. والخطيب جزء من أهل الوسط هذا، ومظهر من مظاهر تفرقه وتنافره. وهو سخر من نسبة أحد المسلحين، وشلته، اليه من غير أن ينكرها. وليس ذلك الا لعلمه بأن صاحبه وأصحاب غيره من الوجهاء، من ذيول حال أهلية واجتماعية متجددة، مصدرها الأول استنقاع الاجتماع الطرابلسي، ودوراته في دائرة علاقات أهلية يكبلها العدد، والهجرة الريفية، وضعف الموارد، وضيق مرافق العمل وعجزها عن المنافسة والتوسع، وشح الاستثمار وإحجام المستثمرين عن المغامرة، وانكفاء النخب القديمة والمحدثة على «حصونها» و «أنفاقها». وتوسلت المنظمات الفلسطينية المسلحة، شأن الحركات الحزبية والاستخباراتية السورية بأحوال طرابلس هذه ونطاقها الريفي، و بـ» «الرضة» التاريخية التي فصلت المدينة وأرباضها من النطاق العثماني و «السوري»، الى إرساء المنازعات السياسية، أو الانتخابية التمثيلية ومنافعها المباشرة، على المنازعات والأحلاف العصبية المضطربة والرجراجة.
الدولة و «الدولة»
والتسلح، على مراتبه، و «المال» على أصنافه، وجهان من وجوه المنازعات، والأحلاف والتفرق. وحين يدعو الخطيب الى «تجريد طرابلس من كل السلاح»، فدعوته، إنما هي من قبيل التمني. وتشبه دعوة أخرى، طرابلسية ووطنية (لبنانية عامة) مزمنة، هي الدعوة الى إنماء طرابلس. وإطلاق الدعوة على هذا النحو، ومساواة التسلح «الجبلي» المنظم والمحترف بالتسلح المرتجل والعشوائي في سائر المدينة، وأحيائها القريبة من جبل بعل محسن، يقصد بهما تحميل الدولة اللبنانية، ورئاسة الحكومة «الحريرية»، أثقالاً لا قبل لهما بها.
وكرامي ينسج على منوال «المعارضة»، أي «الحزب» السوري وصدارته الخمينية الإيرانية. فهو، شأن «حزبه»، يتنصل من المسؤولية عن أحوال ووقائع ضلع فيها، ولا يزال ضالعاً، إلى أذنيه. ويحض، من جهة أخرى، على «الهيبة»، والعلاج الحاسم بـ «الأمن الشرعي». ولا ينكر على حلفائه وأصحابه كسرهم «الأمن الشرعي» حيث قدروا، في طرابلس نفسها، وجوارها الزغرتاوي، وفي عكار، والكورة، وساحل الجبل الى بيروت والضاحية، الى الجنوب بقضه وقضيضه، والبقاع ونواحيه وسهله ونجده (أعاليه)، وعسكرتهم العلاقات والمنازعات الأهلية والسياسية، وتسللهم، خبراء قتال وسلاحاً، الى «الديار» اللبنانية كلها. ومناشدة «الأمن الشرعي» الظاهرة تولي نزع السلاح كله تشبه «اقتراح» الرئيس السوري على زائره ونظيره اللبناني. وهذه عودة لا لبس فيها الى 1972 – 1976، حين أعجزت المنظمات الفلسطينية المسلحة، وفروعها السورية الناشطة، وحلفاؤها وخصومها المحليون، الدولة اللبنانية عن تولي الأمن الوطني الداخلي، وأمن الحدود الوطنية، بـ «قواها الذاتية». فمهد العجز الطريق الى مناشدة الجار والشقيق المدجج بالسلاح، نزع «كل السلاح» من لبنان»كله» «بقبضة من حديد».
والحق أن رئيس الحكومة السابق يشخص الحال تشخيص العارف. فيقول، وقد خلف وراء ظهره الشرق الأوسط الجديد و «المشاريع الخطيرة» و «إسرائيل وعملاءها»ـ يقول: «طالما ان جميع الموجودين على الساحة مسلحون لا يزالون في مقارهم ومكاتبهم، لا يزال الخطر قائماً، لأن أي دعسة ناقصة من أي مكان أو أي فتنة أو أي حادث عابر ربما يفسد كل شيء ويقوض كل شيء لا سمح الله». وترجمة القول، الواضح ظاهراً والملغز باطناً، أن تسلح «الجميع» من «حزب الله» (منطقياً) الى «مجلس قيادة حركة التوحيد الإسلامي» والقبضاي الملقب بـ «الدكرور»، نصير كرامي نفسه، و «المردة» و «القوات اللبنانية» الخ – يمكِّن ذرات هذا «الجميع» وأجزاءه التي لا تحصى، مهما صغرت وتضاءلت من جره كله الى «التقويض» و «الفساد» و «الفتنة»، أو جره الى شفيرها، وصلبه على الشفير هذا. فحال لبنان واللبنانيين اليوم، غداة 3 أعوام ونصف العام من اغتيال رفيق الحريري وجلاء القوات السورية عن الأراضي السورية (تقريباً) وحكومة غالبية «14 آذار»، هي على ما يصفها الرجل الذي اغتيل رفيق الحريري في أثناء رئاسته الحكومة فاستقال مستثقلاً المسؤولية المعنوية عن الاغتيال. وهذه حال دقيقة التركيب والصنع: فهي «تَعِد» المسلحين كلهم، كبارهم وصغارهم، بالقدرة على ربط فعلاتهم المحلية والموضعية بالمصائر الوطنية و «الكيانية» العامة والكبيرة.
وهذا «نظام سياسي» كامل الهيئة، ومتماسك الفعل والتداعي. وهو لم يولد من «الشرق الأوسط الجديد»، ولا يؤدي اليه، على رغم فوضاه العظيمة. ويقتضي ضبط «النظام» الهائج هذا، والمنطوي على تداعيات لا تحصر، قوة عظيمة مثله أو تفوقه «عظمة». وينبغي أن تكون «الدولة» هذه القوة، وأن تتولى هي «قبضة الحديد في كل لبنان». والدولة اللبنانية القائمة ليست «الدولة» المخولة تجريد أحد من السلاح. فهي، متحدرة من «القرار 1559 وما تبعه من قرارات». ويقصد عمر كرامي بالقرارات هذه اخراج القوات «العربية» السورية من لبنان، وبسط سلطة الدولة على السلاح الفلسطيني خارج المخيمات، وترسيم الحدود اللبنانية – السورية والمطالبة بتبادل البلدين الجارين التمثيل الديبلوماسي، وإقرار انشاء محكمة مختلطة دولية – لبنانية تقاضي قتلة رفيق الحريري والمخططين والمتورطين. ويقصد حكومة فؤاد السنيورة والغالبية النيابية التي خرجت من اقتراع اللبنانيين. وواسطة عقد القرارات والمطاليب هي، من غير شك، القرار في شأن منظمة أو بنية «حزب الله» المسلحة والاستخبارية، عماد دوره السياسي العسكري والأمني. وهذا رأي «الحزب» السوري وساسته الفعليين في دمشق وطهران. وهو يلخص تأريخهم للحوادث والوقائع الوطنية والإقليمية.
فماذا يبقى من الدولة القائمة؟ «التعويض على القتلى والجرحى واصلاح البيوت...»، أولاً، و «على المدى المتوسط والمدى البعيد... تحقيق المشاريع الأساسية: المعرض (معرض طرابلس الدولي) والمرفأ والمطار». وهي القسمة السورية المرجوة والفعلية منذ اتفاق الطائف. فيعود السلطان، أي السلطة الفعلية والبت في «حال الطوارئ» على الحدود وفي الداخل، الى «الحزب» السوري وطبقاته. فإذا شكك لبناني (أو سوري أو عربي) في القسمة هذه، قتل إذا كان في المتناول قتله أو وصم بالسعي بين يدي «الشرق الأوسط الجديد».
فيسأل عمر كرامي من طرابلس: «لأي دولة تسلم المقاومة سلاحها؟. عندنا دويلات...». والدولة الشكلية أو «الوهمية»، على قول ميشال عون، هي وليدة القرار 1559. و «هل أعددنا الجيش ليكون قادراً على الدفاع عن لبنان بعديده وعتاده؟». والجواب بالنفي. وإذا مدح قائد الجيش السابق، والرئيس الحالي، مدحه العائد من طهران ودمشق بـ «حياده» في أثناء حملة «المقاومين الإسلاميين» ومساعديهم على بيروت والجبل والشمال. ويسكت الخطيب عن أن اجراءات التسليح الجدية بمروحيات «كوبرا» محل «غازيل» المنزوعة السلاح (بشرط سوري على مصر)، لم تحم الطيارين المتدربين من الرصاص. وأما الانتخابات الآتية، بموجب قانون 1960 الذي رجح ساسة سورية في الدولة كفته، فهي شيئان: «نعول عليها الآمال الكبيرة»، وتؤدي الى «قيام فيديراليات طائفية»، في آن. وينتظر «دولة الرئيس» الطرابلسي، و «الأفندي» الثاني، أن «تفوز بهذه الانتخابات القيادات اللبنانية الصحيحة»، لتتحاور الحوار «المنطقي» و «الوطني» و «الانقاذي». والتعويل على الانتخابات الآتية، وعلى «تصحيحها» التمثيل النيابي، أو «حركتها التصحيحية»، لم يكتمه الناطقون باسم الرئيس السوري، نائبه فاروق الشرع وديبلوماسيه الأول وليد المعلم.
قطب الزاروب وقطب الأمة
وبعد وقت قليل من ختام الجلسة الأولى من «الحوار» ببعبدا، كان أمين عام الحزب الخميني المسلح والأمني ينص على شروطه «الحوارية». وكان خطباؤه ومندوبوه الى الكلام أخرجوا بنيته العسكرية والاستخبارية من «السؤال»، على قول أحد هؤلاء. وحسم حليفه المسألة بإحالتها الى «خبراء» من البنية المسلحة والاستخبارية ومن الجيش، واستثناء السياسيين من الولوغ («التخبيص») فيها. وذهب بعض آخر الى طلب توسيع المناقشة الى موضوعات داهمة مثل «الوضع الاقتصادي والمعيشي»، أو الى قسم المعلومات في قوى الأمن الداخلي. فبنى زعيم «المقاومة الإسلامية» على «حرب تموز» (يوليو) 2006، وعلى تغييرها «كثيراً من المدارس القتالية والعسكرية في العالم» («بتواضع»)، وعلى «أدوار في الحرب (أدتها) قوى سياسية في لبنان»، هي فصائل من «الحزب» السوري - بنى على هذا ليختصر السياسة، والحياة السياسية، والطاقم السياسي، في ميزانه هو، وميزان وظيفته ودوره.
ويبطل الميزان هذا احتمالات العمل السياسي وميادينه وهيئاته سلفاً. فالذين أودى بهم جلاء القوات السورية، وأبطل انتخابهم بواسطة اللوائح القسرية و «الودائع» واقتراع الدوائر المختلطة والواسعة والخدمات وترهيب المنافسين والإعلام المضلل والسطو على المالين الخاص والعام، وهذه من أدوات «الأخوة والتنسيق والتعاون»، هؤلاء كلهم تمنحهم «المقاومة الإسلامية» فرص استلحاق مفتوحة. ومادة الاستلحاق، وحيدة وواحدة: «الوقوف بجانب المقاومة». فمن وقف «الوقفة» هذه، ورأى رأس هرم «المقاومة الإسلامية» العسكري والأستخباري انه وقفها، فجزاؤه قيادة «الدولة». وأما «الحوار» فيحاور جورج الخامس جورج الخامس، على قول سعد زغلول في 1919.
والتخيير بين «النظام» السوري – اللبناني («العروبي») وبين الحياة اللبنانية المعقدة يتوسل اليه «الحزب» السوري، المحلي والإقليمي – والدولي ربما منذ اجتياح الجيش الروسي جورجيا وضم أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا - بعشرات «اللاعبين» المحليين من أمثال عمر كرامي و «مجلس قيادة حركة التوحيد الإسلامي»، وبأجهزة سياسية وأهلية عسكرية وأمنية ووطنية. وعشرات اللاعبين هؤلاء يتولون، من تلقائهم أو بإيحاء من غرفة عمليات مركزية، إذكاء جبهات ومحاور اشتباك أهلية وموضعية لا تحصى ذرائعها ولا تنضب. وتضرب الذرائع هذه بسابقاتها وثاراتها في عمق تاريخ الجماعات والبلاد والمعتقدات والأنساب. ولعل المناقشة التي ثارت في صدد ظهور يوسف الشاب فرنجية، قتيل بصرما بالكورة، في شريط مقتلة أهدن (1978) التي «أحيا» تلفزيون ميشال عون ذكراها الثلاثين وبثها مرتين، قرينة على تناسل الذرائع. وعندما ترد بيانات إيلي سكاف، وكتلته الشعبية برحلة، على تهمة حزب الكتائب (وهو خسر قتيلين قبل نحو ثلاثة أشهر) سكاف بـ «الإقطاعية» - تنبش البيانات سجلات الحروب المحلية، وتجدد حروبَ العامة على المقدمين. وهي تعود الى القرن الرابع عشر، والى معظم عقود القرن العشرين. وسؤال وئام وهاب، قبل ميشال عون بأسبوع تام، عما كانت تصنع طوافة الجيش، ووسام حنا، في سجد، رجع صدى لسؤال تردد في جزين مع حط مهاجري الجبل رحالهم في بلاد المتاولة قبل خمسة قرون.
وعلى هذا، في مستطاع «الحزب» السوري، الكثير والواحد، وقوته السياسية والعسكرية والاستخباراتية الجامعة، بوجهيها الإقليمي والوطني، أن يتسلل من غير جهد، غداة أربعين سنة من الولوغ في «إدارة» الجبهات والمحاور واستيلادها، الى ثنايا الجماعات. وهو يعود فيربطها بحبل متصل وواحد هو جبهة التصدي «للشرق الأوسط الجديد» أو «الكبير». ويتولى جبهة التصدي هذه «الشرق الأوسط الإسلامي»، الإيراني الشيعي والحرسي، ومواليه المحليون، وعماله الموظفون. والعملية المزدوجة هذه – بوجهيها: التفتيت نزولاً الى «مجلس قيادة» منشق عن انشقاق عن انشقاق، والجمع اصعاداً الى قطب دولي «يكاسر» القوة الأميركية – ينجم عنها نظام يتوالد، و «يعيد انتاج» نفسه. وهو قادر على التوسع، وضم ولايات جديدة اليه. و «الولاية» العونية، أو الإقليم العوني، برهان الزعم وصدقه. ولهجة الإقليم علامة على تجديد لغات السياسة على نحو «مذهل» («العهد» الحزب اللهية). وهو ينوي صيد الرئيس سليمان في شباكه. ونهج عمل النظام هو ما لم يُغفل بيان أو تصريح «سوري» واحد، في صحف 20 و21 أيلول الجاري، التنديد به: «الفتنة المتنقلة» عن يد القطبين، قطب الزاروب وقطب «الأمة»، والمتنقل بينهما من غير وازع.
فلا عجب إذا بدا السير في غابة النظام القومي – المذهبي والحرسي، أي «العمل» السياسي فيه، ضرباً من التكهن والعرافة اليائسين. واعلان رجل سياسة أهلية عريق مثل وليد جنبلاط تشخيصه «مرحلة دقيقة»، أو «خطرة»، بين الوقت والوقت، وهو في قلب الغابة هذه، مثلنا كلنا، يدعو الى الدهشة والحزن معاً، شأن حالنا كلنا كذلك. فليس من طرق أو شعاب في غابة النظام القومي – المذهبي والحرسي، ولا محجة فيه ولا جهات. واختبر هذا النظام، لبنانياً واقليمياً، في مسير معقد وطويل مرت فصوله، منذ الاغتيال الكبير، بالانتخابات فالاغتيالات فالإعدامات والحرب الإقليمية وحروب البؤر الضيقة والعريضة فتعليق الهيئات فأعمال التأديب، الى مزيج من هذه كلها، اليوم. ونصب «الدولة» جهة ومقصداً، حين لا يكاد الواحد يرى يده وهو ينظر اليها ولا يميز أخاه من الذئب، ونصب الحوار طريقة ومنهجاً، حين لا تستقر كلمة على معنى متعارف ومشترك، هذا النصب يصدر عن رغبة صادقة في تبين موضع القدم. وهي رغبة ينبغي، أخلاقياً وسياسياً، التمسك بها حقيقة، لا كذباً ولا مقايضة. ولكن الأرجح على الظن أن سبيل العمل المجدي مختلف ربما. فالسبيل الى دولة لبنانية وطنية هو انشاء «قوى 14 آذار»، من لبنات الحياة والتقاليد اللبنانية، نظاماً نقيضاً، سياسياً وأخلاقياً، على المحاور والجبهات والخطوط والخنادق القومية – المذهبية والحرسية كلها. وموارد القوى هذه، في عملية الإنشاء الطويلة، غنية وكثيرة. وهي ميراث قرون من فعل تاريخي أنجب حياة، متعثرة ومترنحة من غير شك، ولكنها حياة «لتكون حياة وحياة أفضل»، على ما قرأ فؤاد السنيورة، وهو يصعد درج الجامعة الأميركية ببيروت من داخل، وتذكر وذكر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق