المستقبل - 28/9/2008-
على مفترق طرق يبلغ عددها خمساً، ما عدا السهو والخطأ على ما يرغب الواحد في القول، بعضها يجيء من حي السريان ووطى المصيطبة، وبعضها الآخر من "جهة" برج أبي حيدر أي من سليم علي سلام أو جادته التي تبدد اسمها في اسمه، ويروح بعض ثالث الى مار الياس، ويمر بعضه (وهو بعض بعض على هذا) بفرن الحطب، ويدخل بعض آخر حي اللجا من غير واسطة، وييمم ذراعٌ شطر مسجد المصيطبة، وبجواره دارة صائب سلام القديمة ـ وتطل على المفترق وطرقه الكثيرة القادمة والغادية مبان عالية، تبدو للمشاة أو للمار في سيارة عابرة، شاهقة، ويقوي البدو هذا، أو الانطباع، تصدي المباني للشمس، وحجبها الضوء عن منتصف الطرقات وبقايا الأرصفة وطبقات المباني الدنيا والمتوسطة، فتتعالى طبقات المباني وينزل الظل ثقيلاً وسميكاً على الأرض المستوية والمرائب المعتمة والفاغرة الأفواه والعميقة البطون والأحشاء، ولولا انبعاث الضوء من أفق الشمال لحسب المار أو راكب السيارة ان المفترق هذا على حدة من أوقات البلاد هذه ـ على المفترق هذا، أو في القلب منه، بنى "الشباب" جدار بركة أو دشمة واطئ، يعلو نحو المتر عن الطريق واستوائها، وملأوا البركة تراباً ورملاً وبحصاً، وغطوا التراب والرمل والبحص بنبات ممتد ومعرّش، قاني الاخضرار، وشكوا في الوسط وتداً معدنياً طويلاً كان في حياة ماضية قسطلاً أو "حية"، وأسندوا الى الوتد وعلقوا عليه معاً صورة فوتوغرافية عريضة، ربما 60ـ75 سنتم، مبروزة (على القراءتين، بفتح الميم مثل العروس، وبضمها مثل عمل النجار)، يُرى فيها أستاذ، هو "الأستاذ"، واللفظة لغة.الصورة التخموالأستاذ يملأ الصورة والبرزة والبرواز، قبل ان يملأ العين والنظر وبعد أن يملأهما. فهو يرفل في المشهد على رغم الضوء القليل، والظل الكثيف المتخلف عن المباني العالية مثل أسوار الحصن العظيم الجاثم في قلب واد. والصورة ليست قريبة، أو ضخمة، على قول المصورين. وتكاد تكون "أميركية"، على قولهم كذلك. فيُرى الوجه الباسم والشاخص، من غير جهد ولا افتعال، الى عين العدسة، أي الى الناظر الى الصورة الفوتوغرافية، وترى الابتسامة العريضة المنفرجة عن طاقم اسنان تامة الرسم. ويعلو الرأس جسماً منتصباً لا اعوجاج فيه ولا التواء، لابساً بذلة زرقاء، سماوية الزرقة، تنحسر عن قميص بيضاء مخططة أو مقلمة، من غير ابتذال طبعاً، تتوسطها كرافات لا تنزل أو تتدلى من القبة المطهرة الى الحزام الجلدي، بل تشع في وسط الصدر على نحو إشعاع الابتسامة والأسنان والفم في الوجه. والكرافات زرقاء كذلك. وتبين زرقتها من "اللهجة" السماوية الى نبرة ملكية.والأستاذ واقف، ويداه في جيبه، وذراعاه ينزلان وئيداً على جهتي الصدر المعتز والمنشرح، ويستقبل العدسة، ومن ورائها العالم. وقبل ان "يقطع" إطار الصورة معظم الجزء السفلي من الجسم المستقيم استقامة الرمح، على قول النساء من البنتجبيليات في وصف الشبان والعرسان وأبناء الأعيان، تهب الصورةُ الجلية العينَ حزاماً جلدياً يلف الخصر فكأنه من الجسم وبنيته ورسومه. وينعقد الحزام الجلدي تحت الكرافات. ويظهر معدن رأس الحزام ناتئاً ومنضداً، مستطيلاً وأنيقاً. وفوق الصورة الكبيرة والمبروزة، وراء زجاج "أشف من المغرب"، على قول نزار قباني في نظارتي والده المتوفى، يسهر "الشباب" من غير شك على الحؤول دون استقرار الغبار عليه، صورة مظلمة ومختلطة، تكاد تكون سوداء، يتعرف فيها أو عليها الناظر عمامةَ السيد موسى الصدر المائلة، ووجهه، برفق الى كتفه، من غير ان يترك الوجه التحديق في الناظر إليه. وجعلت الصورة الصغيرة والمكفهرة فوق الصورة العريضة والمتلالئة، وعلقت على الوتد المعدني بخيط غليظ، ربما كان من حديد.وتحف الدشمة الرملية، وهي في وسط المفترق، والصورتان في وسطها، أعلام أفواج المقاومة اللبنانية ("امل") الخضراء، المشبعة الخضرة. وفي وسطها كتبت لفظة "أمل" بأحرف مستديرة يحوط بعضها بعضاً، ويشتبك بعضها ببعض. وتتقوقع اللفظة في دائرة يشوبها لونان، أبيض وأحمر، مظلمان على شاكلة ظلمة الخضرة. فكأن اللونين هذين طليا بأخضر أشد إعتاماً من الأسود وأمرّ ظلمة. وقد يحصي المار بالمفترق أربعة أعلام أو خمسة، أو أكثر قليلاً. ولكنه يحسب ان غابة من الأعلام، يفوق عددها عدد الأشجار الزاحفة التي رآها ماكبث فيما رأى، تكسو المفترق والساحة الضيقة، ويغصّ بها الاثنان، وتزيد المكان قتاماً على قتام. فإذا اجتاز المفترق وساحته، وسلك الطريق المفضية الى المسجد، استعاد الضوء بعض سطوته وانفراجه، واتسع المكان ورحب بعض الرحابة. ورجع المار الى عالم معتاد، خلو من إرهاق الظلال وإلحاحها.ويقوم المفترق هذا على الطرف الجنوبي الشرقي من حي اللجا، بحسب تسمية درزية قديمة كانت تطلق على بلاد حوران، أو المصيطبة، بحسب اسم بيروتي أقل تدقيقاً وأعم. ويتوسط دائرة سكن مختلطة الطوائف والمذاهب، غلب عليها أهل بيروت السنّة طويلاً، ما أقامت الدائرة على اختلاطها. وكان اللجا مقصد مهاجرين من قرى عاملية جنوبية من جوار النبطية ومن الزهراني، منذ ثلاثينات القرن الماضي. فينزلون مستأجرين على أهل محليين وفقراء من غير عوز، اصحاب منازل على حدة، هي حجرات مستطيلة يأوي إليها المستأجرون حين يريدون النوم، ويخلونها حال فراغهم منها، فيدخلها وينام على فُرُشها من كانوا يعملون في اثناء "الوردية" المنقضية، أو الفصل من ساعات العمل. وغلب المهاجرون على "المقيمين"، على قسمة سارية في الشوف وعاليه، في الخمسينات والستينات. وكان للمقيمين سهم راجح في غلبة المهاجرين المتقاطرين. فهم ارتضوا ترك ممتلكاتهم، وبيعها من مستأجريهم لقاء ثمن مجز، و"الهجرة" الى حيث هم الكثرة الغالبة، والشقق الحديثة، والمرتبة التي تليق بهم وبأولادهم الذين درسوا في المدارس، وبعضهم في الجامعات، ويعملون في المكاتب أو في التجارة. وخلفوا وراءهم ضعفاءهم نهباً لضغينتين، واحدة على أهلهم وميسوريهم الذين تخلوا عنهم، وأخرى على جيرانهم المتكاثرين والمحدثي اليسر، قياساً على عسرهم السابق.وفي اثناء سنوات القلاقل والرماد الكالحة والمرة، ملأ المهاجرون والمهجّرون اللجا القديم، وهدم مهاجروهم الى الخليج وافريقيا ما بقي من غرفه السابقة التي تقاسمت أحواشه البائدة والغابرة. فحلت المباني "الحديثة" والعالية والضيقة، والمتآكلة منذ بنائها ورفعها، محل البيوت والمنازل الواطئة وبقيت الطرق القديمة، المتعرجة والمستكينة لتكالب البيوت وأصحابها على كل سنتيمتر مربعة، على حالها من الضيق، وشبهها بطرق الضيعة والحارات. وآوى الأهلُ "المتمدينون" ـ وكثرتهم لم تقلع عن حجها الأسبوعي الى مساقطها، أو بلادها وبلاد أهلها الأولى، وزيارتها في أثناء الليل والعودة صباح اليوم التالي أو ظهره في أرتال مزدحمة من السيارات الخَلِقة أو الفارهة، وخَلَلَ غيمة عظيمة من البنزين والمازوت المحترقين ـ، آوى الأهلُ الأهلَ الهاربين من حروب بلدات الجنوب وجبهات المدن ومن الهجمات والغزوات وحملات التأديب والاغتيالات وثورات العداوات والعصبيات الجديدة والهاجعة.وفي الأثناء، في السبعينات والثمانينات، كان نشأ جيل جديد من الفتيان والشبان، كثير العدد، حصل تعليماً مضطرباً ورجراجاً، وشب على جوار وأهل منكفئين ومتجانسين توليا المثاقفة المدينية والسياسية، وعلى سوق "عمل" تترجح بين السفر الى جاليات الأهل المغتربين وبين استنقاع العمل الرخيص والمستقطع، والبطالة، والتكسب من حمل السلاح والمرابطة على حدود القرى وأجزاء الأحياء الداخلية و"بوابات" الطرق المتخيلة، والمخيمات الفلسطينية المتمردة، والموت قنصاً أو قصفاً أو ظُلماً" (على ما سمى الخمينيون اللبنانيون الأوائل القتل بنيران الأهل الصديقة). فبنى الجيل "الجديد" حقا، ومناط حلم انطون سعادة السوري القومي الاجتماعي عن جدارة، اجتماعه الأهلي وهويته على الخراب "الجميل" (أدونيس) هذا. ورسوم المكان، أو المنازل والإقامة والتجوال والانقطاع والاتصال، وجه اساس من وجوه إعمال الهويات وتداولها وبنائها ومنازعاتها وأحلافها.مسالك الاستيلاءواللجا (الشيعي) عيّنة من الرسوم هذه وتمثيل عليها. والمفترق ـ الساحة الذي تقدم وصفه هو احد الرسوم الشائعة في مجمعات سكن أو مربعات (أرباع المدن العربية ـ الإسلامية قبل التوسع الأجنبي الغربي) انتشرت في بيروت، وتغلغلت فيها، مع انتصاف سبعينات القرن العشرين. واندلعت الغزوات الأخيرة (موقتاً) في يومي 7 و8 أيار الميمونين، وربما الإلهيين قريباً، من محلة قصقص وأرض جلول ومقبرة الشهداء ـ جامع الخاشقجي جنوباً وشرقاً، إلى الحمرا ورأس بيروت وعين المريسة شمالاً وغرباً، وبين هذه وتلك رأس النبع والبسطتين وزقاق البلاد ـ كركول الدروز خطاً أول، وكورنيش المزرعة وبربور وسليم علي سلام ورمل الزيدانية ورمل الظريف والوتوات والصنايع وكليمنصو ـ جوستينيان خطاً ثانياً، والرملة البيضاء كورنيش المزرعة وعين التينة وساقية الجنزير والصنوبرة ـ قريطم خطاً ثالثاً ـ اندلعت الغزوات هذه على جبهات ومحاور نشأت عن هجرة الشيعة الى بيروت، ونزولهم بين أظهر أهلها، وعن رسوم الهجرة والنزول وملابساتهما وسياقاتهما.فانطلقت الهجمات (الوطنية وغير المذهبية) من النوى الأهلية الصلبة المتجانسة، والمأمونة الولاء والامتثال. فخرج المسلحون من "أمل" وهي غالبة في معظم المربعات والدشم الأهلية هذه، على خلاف الحال في معظم أرباع الضاحية القريبة، إلى أطراف مربعاتهم المتاخمة السكن السني أو المختلط (الدرزي والمسيحي والشيعي طبعاً الى الكثرة السنية)، والقريبة أو اللصيقة. وكانت أسطح المباني العالية، داخل مربعاتهم ونواهم، وأسطح المباني العالية على تخوم أحياء السكن "العدوة"، مواقع مراقبة وردع (إذا دعت الحاجة وهي لم تدع). فنشر عليها القناصة، وأصحاب المناظير بأشعة تحت الحمرا. وزعم المهاجمون ان الإجراء هذا رد على نشر فيلق المشاة الثالث والفرقة المدرعة الثانية عشرة في جيوش "المستقبل" (وحليفها "حزب القوات اللبنانية") قناصتهما بأعالي برج المر. وترابط في حديقة البرج وعلى مفترق طريق الصنائع وطريق ميناء الحصن سرية من الجيش يعرف بعض الأصحاب جنوداً منها يتقاضون رواتبهم من حرس مجلس النواب ولا يعملون إلا في "المناسبات".وتقدم المهاجمون، ببنادقهم الرشاشة ومضادات الدروع وقليل من أسلحة المضاد (السلاح الجو) والرشاشات الثقيلة والهواوين "الصغيرة"، داخل ديرات العدو المديني والأهلي، أو على طرق المواصلات الفاصلة بين الديرات والأحياء. ومهدوا لتقدمهم بنيران وقائية واستباقية رادعة، وهم على يقين من ان العدو السياسي، الأهلي والمذهبي على ما يرونه ويصورونه وعلى ما يصنعونه ويتمّون صناعته، هذا العدو غير مسلح. وهو لا يعقل ان يتسلح، ويستعمل سلاحه في مدينة إعمارُها هو إنجازه الأول، والشطر الراجح من تعريفه هويته السياسية والاجتماعية والأهلية. فلا يسوغ في ملة العدو واعتقاده تعريض عمارة هذه المدينة للهدم والتحريق والخندقة. ونقل خروج الجماعات المسلحة من أرباعها وحاراتها ودشمها السكنية، وتقدمها في ديرات العدو، من بؤرها وشرانقها ومعازلها الى قلب المدينة وشوارعها ومحاورها.فالعدد الكبير، وكثرة الروافد وتجددها، والتفاوت الاجتماعي الداخلي، لم تعصم الكتلة السكانية والمذهبية المتراصة من تحويل احياء سكنها جيوباً وحارات وحصوناً. فعلى أهالي بعض طرقات رأس النبع (الشيعة) الخروج من جيوب سكنهم ليبلغوا شارع محمد الحوت العام، أو ليبلغوا بالأحرى جادة بشارة الخوري العريضة، وشريان الوصل بين ساحة الحرية (الشهداء+ البرج) وبين قصقص وشاتيلا والغبيري من بعد. وعلى الأهالي هؤلاء والمسلحين، ان يخلّفوا وراءهم الخندق الغميق والباشورة والبسطة التحتا لينخرطوا في الأجزاء العامة والمشتركة، أي غرب زقاق البلاط والبطريركية ومار الياس والاستقلال ورمل الظريف. وإذا خلفوا وراءهم برج ابي حيدر وسعهم ان يقطعوا جادة سليم علي سلام، وإذا خلفوا اللجا قطعوا مار الياس، وإذا خلفوا الوتوات قطعوا ميشال شيحا (المفضي الى برج المر وإلى جسر فؤاد شهاب)، وإذا خلفوا بربور، ووراءه النويري وبرج أبي حيدر، قطعوا المزرعة الداخلية من جهة أو كورنيش المزرعة (صائب سلام) من جهة أخرى. ويستقبلون كورنيش المنارة حين يخرجون من شرنقتهم في وسط عين المريسة. وحيث افتقدوا البؤر والجيوب الأهلية العريضة، وهم يفتقدونها من ميناء الحصن ومار الياس وجزء من المزرعة والطريق الجديدة شرقاً الى البحر، غرباً، ما خلا بعض الجيوب القليلة، أعملوا رأس حربة "قومياً سورياً"، معظم مقاتليه الهواة من الكورة والشمال. وسمع بعضهم، وهو من عكار، يحمل على موظفين امنيين كانوا يقومون على حراسة مرافق محلية، وينعي عليهم عكاريتهم، على ما جاء في تحقيق نشره موقع "لبنان الآن".فالمسلحون، وأهاليهم وجماعتهم المذهبية العريضة، على رغم إقامتهم ببيروت منذ عشرات السنين، وبعضهم يتحدر من أجداد وآباء نزلوا خططها وحاراتها قبل 80 سنة أو 50 أو 30، هم (المسلحون والأهالي) ابناء انكفاء لم يبرأوا منه، وزاده العدد والتراص والتعصب عزلة على عزلة. فيتصور لهم دخولهم المدينة المختلطة المدنية والعامة، جماعات مرصوصة مسلحة أو متظاهرة، في صورة الزحف والفتح والاستيلاء. والحق ان التخييم في ساحة رياض الصلح (والشطر الجنوبي من ساحة الحرية استلحاقاً واستطراداً) كان قرينة فاضحة على ثقافة الحرب التي تعمر مخيلة هؤلاء وصدورهم وأفهامهم. وتسمية التخييم والنزول بأرض حرب واستيلاء اعتصاماً أو إضراباً، تزوير صارخ. ففي الاعتصام او الاضراب يتولى "أهل البيت"، أي العاملون في المرفق ومستعملوه والقائمون به، توقيف العمل أو الاستعمال أو التدبير. فكان ينبغي ان يقوم اصحاب المكاتب والمتاجر والعاملون باعتراض العمل والحؤول دون دوامه واستمراره.وأما التخييم، أو الإناخة العسكرية والحربية، فلا تتستر على مجيئها من خارج، وحلولها عنوة وغصباً بالأرض الغريبة. و"المعتصمون" المزعومون، وهم يشبهون أنفسهم بتظاهرات الطلاب "الجالسين" في جامعاتهم أو ترك العمال تشغيل آلاتهم الى صحن المصنع، خرجوا من جيوب سكنهم ودشمهم ومربعاتهم الأهلية، على جانبي جادة سليم علي سلام، أو من معاقلهم ومضاربهم في ظواهر المدينة، ودخلوا الساحات عنوة، وأوقفوا أعمال العاملين وأصحاب المصالح بالقوة و"الأمر الواقع". فآذن ذلك بعسكرتهم الأهلية و"البعلبكية"، أي العشائرية، على قول أحد اصحابنا. ووصلوا الساحات المحتلة والمصادرة بمضاربهم وديراتهم الداخلية. وأخرجوا هذه وتلك من دائرة بيروت، ونطاقها الاجتماعي والعمراني. وانتزعوها منهما، أو عولوا على انتزاع الساحات المحتلة والمصادرة من دائرة بيروت ونطاقها، على نحو ما انتزعوا مضاربهم وديراتهم من المدينة العامة والمشتركة (ولو أنها عامة ومشتركة على هذا القدر أو ذاك من العموم والاشتراك).الحرب والجسم المرصوصوهذه العلاقة بالمكان ورسومه هي كناية عن مفهوم هذا الضرب من الجماعات عن السلطة، ومباشرتها لها. فهي تحل "الدولة" وتنزلها على المثال نفسه، مثال الاستيلاء والحيازة المادية والتامة. ويترتب على المثال هذا حمل الجماعات الأخرى، على رغم اختلاطها واشتراكها في حيز عام متقاسم، على العداوة والأجنبية والهجنة، وحمل "بلادها" على غنيمة، وعلى دار حرب وغزو واستيلاء. فالحدود غير المرئية بين جيوب الجماعة المذهبية والمتوطنة وبين أحياء الجماعات الأخرى، المختلطة، أو النازعة الى "الصراحة"، تقلبها الجماعة المذهبية المتوطنة جبهات ناتئة الرسم. والصور والدشم والأعلام، المرفرفة والمرسومة على الجدران، والأنصاب أو المجسمات، هي ترسيم للحدود والتخوم الأهلية السياسية والأمنية والعسكرية. والبركة الرملية التي مر وصفها، والصورة المبروزة والصورة الورقية والأعلام والمعلقات المستطيلة والطويلة المتدلية على الجدران القريبة (معلقات البيعة)، أشبه بالمسالح بين الولايات. وهي ضرب من موقع جمرك ومن موقع مراقبة أمني.وقد تقتصر المسالح على لافتة معلقة على رأس طريق أو شارع، أو أوله. ففي مساء 6 أيار، قبل يوم من حملة المودة والموادعة على بيروت المختلطة والمدنية، كنت في سيارة تنزل نزلة البطريركية، وعلى جانبها الى اليمين مدرسة الحريري الثانية وعلى الجانب الآخر الى اليسار، ليسيه عبدالقادر. وكان نحو 10 الى 15 رجلاً يتجمهرون عند اول الطريق المؤدية الى رمل الظريف، وينتشرون حوله. وللوهلة الأولى، لم يظهر جلياً ما يجمعهم ويجمهرهم، ما عدا شبههم القوي بعضهم ببعض: فكلهم قصيرو القامة وغليظو الرؤوس والرقاب والأكتاف والصدور والبطون والمؤخرات والأفخاذ والأقدام، ويلبسون لباساً يكاد يكون زياً هو قميص خاكي قصير الكمين وواسع على "جينز" بالٍ وباهت الزرقة. فلا يشك الناظر إليهم أنهم "وحدة" أو جماعة، من غير ان يُعلم علام يجتمعون ويتوحدون.وعندما استداروا، ومشوا على خلاف الوجه الذي كانوا يقصدونه، انتبهتُ الى الموضع الذي يغادره آخر واحد او اثنين من جمعهم، فإذا به لافتة خط عليها "من انتصارنا لن ينالوا" (فهم لا يحيدون عن ابتكاراتهم اللغوية والإنشائية) بين صورة لرأس زعيم "أمل" وصورة لرأس حبيبه وصديقه زعيم الجيش الخميني. وقفلت الكوكبة من المناضلين، بعد ان رفعت اللافتة ونصبت الراية في أرض العدو، عائدة الى مضربها. وكان عرض القوة المسالم بمنزلة التكشير عن الأنياب. فلما اطمأنت الى هيبتها، أخلت مكاناً يقع خارج "بلادها"، ولا ترى غضاضة في الاستيلاء والتسيد الرمزيين عليه، على نحو ما لن يردعها رادع عن مهاجمته في اليوم التالي بالسلاح، أو عن حراسة انتصارها الحاسم والقاطع عليه، وعلى أهله، بواسطة شبان مسلحين ومتحلقين على أمتار قليلة من محطة محروقات قريبة. وفي صباح 8 أيار، كنت أمر بقرب المسلحين المتحلقين، قاصداً عملي من طريق من الطرق المواربة التي قسر احتلال المسلحين المذهبيين المدينة المواطنين عليها. فلما تجاوزت مسلحاً كان ينتقل من جهة من الطريق الى أخرى، سمعته يقول: "بيروت خط أحمر، ها!"، فهو يجهر ما تكني عنه اللافتة القريبة: إرادة الاستيلاء والاستعلاء والوطء.فنشر المستولون الفاتحون راياتهم على الطرق والمفترقات، وعلقوا اللافتات في مدائحهم و"صريخهم" (أو شعارهم، والشعار هو الصريخ، أي صيحة الحرب)، وكأنها أقواس نصر، يمر تحتها المارة ويطأطئون الرؤوس. وركزوا الرايات، على ما كان يقال في خطابة الحرب، عالية، تشرف على الناس المنقلبين رعايا يرعاهم (من الرعي) أهل السيف، وأهل "العلم" المخزون في صحائف الصدور. وفضيلة الرعية هي الطاعة والانقياد والإذعان، على قول "سوري" مشهور. وتنشر الرايات في بلاد الفتوح والاستيلاء، وتترك هناك، حيث قد لا يراها أو ينتبه إليها، وحتماً لا يواليها أحد. فترى الى اليوم، بعد انقضاء ثلاثة أشهر ونصف الشهر على "فتح" 7 أيار، أعلام "القوميين السوريين" السوداء وزوبعتهم السلتية والنازية القانية منكسة وخَلِقة على أعمدة الكهرباء. ويفترض أصحاب الأعلام هذه، شأن أوليائهم وأصحاب سلاحهم وقيادهم، أن أعلامهم تعلن على رؤوس الأشهاد انتصارهم، وسيادتهم وتوليهم الرئاسة على اهل الحمرا وجوارها وفروعها. وأهل الحمرا، ومستعملوها (على وجوه الاستعمال المتفرقة من عمل وإقامة وامتلاك ومعاملة)، براء من هؤلاء، مستولي نهار وليلة.وعندما استولت القوات السورية على بيروت، أو شهرت استيلاءها، كان من أول الشارات التي استحدثتها، من طرف واحد، لصقها صورة حافظ الأسد على أعمدة مطار بيروت الدولي الداخلية على مرأى من المسافرين. وبقي الرئيس السوري يحدق في المسافرين، ويدعوهم الى السفر من غير عودة، الى حين هدم رفيق الحريري المطار القديم، وجدد بناءه. فكانت الصورة بمنزلة الضم الى "الشعب الواحد"، وإلغاء الدولة الثانية. وحين حسب الحزب الخميني المسلح انه في طريقه الى الاستيلاء والتمكن، غداة "تحريره" الجنوب، ونقل السيادة عليه الى وكلاء الباسدران و"القوات الخاصة" ("قوات الموت" على ما كانت تسمي نفسها)، نصب أنصاباً مصورة لأئمته وأولياء أمره من حكام ايران وأسياد شعوبها وساساتهم. ويبدو ان مفاوضات اليوم على نزع الصور ورفعها ترتطم بالأنصاب المصورة هذا، وبإصرار الخمينيين والصدريين (محازبي "أمل") على إخراج المطار (الدولي) من دائرة المفاوضة والمبادلة. وكان زعيم "أمل"، وصاحب الرقم القياسي في الصور المرفوعة، على رغم تواضعه وحيائه ورغبته المحمومة في تدمير الصور منذ "مشادة الصور" البيزنطية في القرن الثامن الميلادي، استعجل نزع الصور والأعلام. ويندب المستولون مواليهم وأنصارهم الى التمتع في "الحق في الصورة". فمنذ 7 ـ 8 أيار وصور "المهندس فؤاد مخزومي" ولافتاته الخيرية والانتخابية، مرفوعة أو معلقة على ما لا يحصى من الجسور والجدران والشجر وعواميد الإنارة والعيدان. وهذا الريع يدين به المهندس ورجل الأعمال السخي، وصاحب المال غير السياسي، على ما يرى ربما سليم الحص وجميل السيد (من وراء القضبان)، يدين به الى مشيه في ركاب أهل القوة المستولين.والأعلام واللافتات والصور والشعارات تصنع سيادة، وتندب الى ولاية الأمور، في مرآة ذهنية سحرية ترتب عالم أصحابها ودنياهم على مراتب: ففوق يعني العلو والسمو والشرف، وتحت يعني الدنو والضعف والمهانة، والكثرة الظاهرة تعني القوة والسلطان، والقلة الظاهرة تعني الامتثال والالتحاق، والكلام الكثير والجازم والصلف يعني الحقيقة والشجاعة والنفاذ، والكلام العامي والموازن بين الأمور والمتواضع يعني التعثر، إلخ. فلا يشك اصحاب الأعلام والسلاح ان راياتهم الكثيرة هي عنوان سلطانهم وسيطرتهم ورجولتهم، وعنوان "دولتهم" تالياً، وأما تربع الدولة في إرادات المواطنين المعلنة، وصدور الأمة عن استفتاء المواطنين، فـ "فكرة" غريبة عن أذهان أهل الحارات والمعازل والجيوب و"الأحزاب". فهم يصدرون عن اجسام عصبية وأهلية مرصوصة، تعلوها رؤوسها ورئاساتها "الطبيعية" والملهمة. وأما الاقتراع، وتقسيم السلطات وتعاونها، واستقلال المجتمع عن الدولة، واختصاص السلطة والقانون والمعرفة بمعاييرها، والمساواة بين المواطنين، فتؤدي الى تفكك الجماعات أفراداً، وإلى تقييد السلطة، وتَقلّب الناخبين بين غالبيات وقلات تطيح الثوابت والرؤوس وتجددها. فتتصدع المراتب، ولا يستقر فوق ولا تحت، ويجرد ما كان قدساً ثابتاً من قدسه، ويبطل التوكيل... وهذه تشبه مقدمات خروج الدجال والأعور الديموقراطيين والليبراليين.وعلى هذا فالسحر المنبعث من الأجسام المرصوصة في دشم اجتماعية إسمنتية، يبدو مأمون العاقبة قياساً على ما يترتب على الأخذ بالهيئات السياسية والاجتماعية المحدثة، والقائمة على التمثيل والمساواة والمنازعة والجواز والإرادات الحرة. ويصل الاعتبار هذا، وهو اعتبار مدرك ومعلن وتدور عليه كتابات فقهية جليلة وأخرى تاريخية واجتماعية فكرية أقل جلالاً وقوة وتفويضاً، يصل ما قد يبدو فولكلوراً بلدياً، و"حكي قرايا" بعيداً من السرايا الشاهانية والثوروية السرية والسردابية، بالسياسات الكبيرة، والتغيرات العسكرية والاستراتيجية الكونية، على قول اعيان المذهب وحلفائهم (فحطَّ الرأي هذا على لسان عمر كرامي، الأفندي الطرابلسي، فقال، وهو القائد الميداني المجرب، إن "حرب تموز" غيرت المقاييس والمعايير العالمية، وهو حدّث عن ثقاة معصومين).فالأجسام المرصوصة، أو الدشم الاجتماعية والمذهبية المحلية، المسورة بالأعلام والصور واللافتات، والممتلئة تعصباً وإيماناً (ايمان الأعراب القرآني) واحتشاداً وسلاحاً وبطالة، هذه الأجسام جزء متين، وركن من أركان كتلة اقليمية عريضة. وتضوي الكتلة هذه "دولاً"، تقر لها العلاقات الدولية بهذه الصفة، ولا يسع "المجتمع الدولي" نفيها منه على رغم معرفته بمروقها ونهوض سلطانها على الاستيلاء في الداخل والخارج. فتتوسل بصفتها ذريعة الى مد نفوذها، والتسلل الى ثنايا الجماعات في الدول الوطنية الأخرى، والمفاوضة على مصائرها مع ذوي الإرادات "الطيبة"، والناشدين أدواراً وأوزاناً لدولهم وأحزابهم وأنفسهم. ولكن يد الدول المنتحلة الصفة هذه، أي عصبياتها المستولية، كانت لتكون قصيرة ومكفوفة لولا الحارات والجيوب المنتشرة في البلاد كلها، ولولا انكفائها و"كبكبتها"، على ما كان أصحاب النظر يقولون في قتال الخوارج. فالحارات والجيوب "المتكبكبة" تتولى الغارات على الجبهات والمحاور المبثوثة في البلاد والجماعات والأحزاب والنقابات والإدارات والهيئات والأسلاك والعائلات وبني العمومة وبني الخؤولة والطبقات الاجتماعية. والرد عليها يورط الراد، دولة كان أو سلكاً أو، ويورده مورد العدوان على "الشعب". فالدشمة تنقلب الى "الأمة" من غير نصب، وتتصل بالجيوب الأخرى، وتنشئ "محوراً" سمة سياسته، الى تخريب الدول والمجتمعات، المطاولة. فوقت المحور يدوم طويلاً، على قول ديغول.
على مفترق طرق يبلغ عددها خمساً، ما عدا السهو والخطأ على ما يرغب الواحد في القول، بعضها يجيء من حي السريان ووطى المصيطبة، وبعضها الآخر من "جهة" برج أبي حيدر أي من سليم علي سلام أو جادته التي تبدد اسمها في اسمه، ويروح بعض ثالث الى مار الياس، ويمر بعضه (وهو بعض بعض على هذا) بفرن الحطب، ويدخل بعض آخر حي اللجا من غير واسطة، وييمم ذراعٌ شطر مسجد المصيطبة، وبجواره دارة صائب سلام القديمة ـ وتطل على المفترق وطرقه الكثيرة القادمة والغادية مبان عالية، تبدو للمشاة أو للمار في سيارة عابرة، شاهقة، ويقوي البدو هذا، أو الانطباع، تصدي المباني للشمس، وحجبها الضوء عن منتصف الطرقات وبقايا الأرصفة وطبقات المباني الدنيا والمتوسطة، فتتعالى طبقات المباني وينزل الظل ثقيلاً وسميكاً على الأرض المستوية والمرائب المعتمة والفاغرة الأفواه والعميقة البطون والأحشاء، ولولا انبعاث الضوء من أفق الشمال لحسب المار أو راكب السيارة ان المفترق هذا على حدة من أوقات البلاد هذه ـ على المفترق هذا، أو في القلب منه، بنى "الشباب" جدار بركة أو دشمة واطئ، يعلو نحو المتر عن الطريق واستوائها، وملأوا البركة تراباً ورملاً وبحصاً، وغطوا التراب والرمل والبحص بنبات ممتد ومعرّش، قاني الاخضرار، وشكوا في الوسط وتداً معدنياً طويلاً كان في حياة ماضية قسطلاً أو "حية"، وأسندوا الى الوتد وعلقوا عليه معاً صورة فوتوغرافية عريضة، ربما 60ـ75 سنتم، مبروزة (على القراءتين، بفتح الميم مثل العروس، وبضمها مثل عمل النجار)، يُرى فيها أستاذ، هو "الأستاذ"، واللفظة لغة.الصورة التخموالأستاذ يملأ الصورة والبرزة والبرواز، قبل ان يملأ العين والنظر وبعد أن يملأهما. فهو يرفل في المشهد على رغم الضوء القليل، والظل الكثيف المتخلف عن المباني العالية مثل أسوار الحصن العظيم الجاثم في قلب واد. والصورة ليست قريبة، أو ضخمة، على قول المصورين. وتكاد تكون "أميركية"، على قولهم كذلك. فيُرى الوجه الباسم والشاخص، من غير جهد ولا افتعال، الى عين العدسة، أي الى الناظر الى الصورة الفوتوغرافية، وترى الابتسامة العريضة المنفرجة عن طاقم اسنان تامة الرسم. ويعلو الرأس جسماً منتصباً لا اعوجاج فيه ولا التواء، لابساً بذلة زرقاء، سماوية الزرقة، تنحسر عن قميص بيضاء مخططة أو مقلمة، من غير ابتذال طبعاً، تتوسطها كرافات لا تنزل أو تتدلى من القبة المطهرة الى الحزام الجلدي، بل تشع في وسط الصدر على نحو إشعاع الابتسامة والأسنان والفم في الوجه. والكرافات زرقاء كذلك. وتبين زرقتها من "اللهجة" السماوية الى نبرة ملكية.والأستاذ واقف، ويداه في جيبه، وذراعاه ينزلان وئيداً على جهتي الصدر المعتز والمنشرح، ويستقبل العدسة، ومن ورائها العالم. وقبل ان "يقطع" إطار الصورة معظم الجزء السفلي من الجسم المستقيم استقامة الرمح، على قول النساء من البنتجبيليات في وصف الشبان والعرسان وأبناء الأعيان، تهب الصورةُ الجلية العينَ حزاماً جلدياً يلف الخصر فكأنه من الجسم وبنيته ورسومه. وينعقد الحزام الجلدي تحت الكرافات. ويظهر معدن رأس الحزام ناتئاً ومنضداً، مستطيلاً وأنيقاً. وفوق الصورة الكبيرة والمبروزة، وراء زجاج "أشف من المغرب"، على قول نزار قباني في نظارتي والده المتوفى، يسهر "الشباب" من غير شك على الحؤول دون استقرار الغبار عليه، صورة مظلمة ومختلطة، تكاد تكون سوداء، يتعرف فيها أو عليها الناظر عمامةَ السيد موسى الصدر المائلة، ووجهه، برفق الى كتفه، من غير ان يترك الوجه التحديق في الناظر إليه. وجعلت الصورة الصغيرة والمكفهرة فوق الصورة العريضة والمتلالئة، وعلقت على الوتد المعدني بخيط غليظ، ربما كان من حديد.وتحف الدشمة الرملية، وهي في وسط المفترق، والصورتان في وسطها، أعلام أفواج المقاومة اللبنانية ("امل") الخضراء، المشبعة الخضرة. وفي وسطها كتبت لفظة "أمل" بأحرف مستديرة يحوط بعضها بعضاً، ويشتبك بعضها ببعض. وتتقوقع اللفظة في دائرة يشوبها لونان، أبيض وأحمر، مظلمان على شاكلة ظلمة الخضرة. فكأن اللونين هذين طليا بأخضر أشد إعتاماً من الأسود وأمرّ ظلمة. وقد يحصي المار بالمفترق أربعة أعلام أو خمسة، أو أكثر قليلاً. ولكنه يحسب ان غابة من الأعلام، يفوق عددها عدد الأشجار الزاحفة التي رآها ماكبث فيما رأى، تكسو المفترق والساحة الضيقة، ويغصّ بها الاثنان، وتزيد المكان قتاماً على قتام. فإذا اجتاز المفترق وساحته، وسلك الطريق المفضية الى المسجد، استعاد الضوء بعض سطوته وانفراجه، واتسع المكان ورحب بعض الرحابة. ورجع المار الى عالم معتاد، خلو من إرهاق الظلال وإلحاحها.ويقوم المفترق هذا على الطرف الجنوبي الشرقي من حي اللجا، بحسب تسمية درزية قديمة كانت تطلق على بلاد حوران، أو المصيطبة، بحسب اسم بيروتي أقل تدقيقاً وأعم. ويتوسط دائرة سكن مختلطة الطوائف والمذاهب، غلب عليها أهل بيروت السنّة طويلاً، ما أقامت الدائرة على اختلاطها. وكان اللجا مقصد مهاجرين من قرى عاملية جنوبية من جوار النبطية ومن الزهراني، منذ ثلاثينات القرن الماضي. فينزلون مستأجرين على أهل محليين وفقراء من غير عوز، اصحاب منازل على حدة، هي حجرات مستطيلة يأوي إليها المستأجرون حين يريدون النوم، ويخلونها حال فراغهم منها، فيدخلها وينام على فُرُشها من كانوا يعملون في اثناء "الوردية" المنقضية، أو الفصل من ساعات العمل. وغلب المهاجرون على "المقيمين"، على قسمة سارية في الشوف وعاليه، في الخمسينات والستينات. وكان للمقيمين سهم راجح في غلبة المهاجرين المتقاطرين. فهم ارتضوا ترك ممتلكاتهم، وبيعها من مستأجريهم لقاء ثمن مجز، و"الهجرة" الى حيث هم الكثرة الغالبة، والشقق الحديثة، والمرتبة التي تليق بهم وبأولادهم الذين درسوا في المدارس، وبعضهم في الجامعات، ويعملون في المكاتب أو في التجارة. وخلفوا وراءهم ضعفاءهم نهباً لضغينتين، واحدة على أهلهم وميسوريهم الذين تخلوا عنهم، وأخرى على جيرانهم المتكاثرين والمحدثي اليسر، قياساً على عسرهم السابق.وفي اثناء سنوات القلاقل والرماد الكالحة والمرة، ملأ المهاجرون والمهجّرون اللجا القديم، وهدم مهاجروهم الى الخليج وافريقيا ما بقي من غرفه السابقة التي تقاسمت أحواشه البائدة والغابرة. فحلت المباني "الحديثة" والعالية والضيقة، والمتآكلة منذ بنائها ورفعها، محل البيوت والمنازل الواطئة وبقيت الطرق القديمة، المتعرجة والمستكينة لتكالب البيوت وأصحابها على كل سنتيمتر مربعة، على حالها من الضيق، وشبهها بطرق الضيعة والحارات. وآوى الأهلُ "المتمدينون" ـ وكثرتهم لم تقلع عن حجها الأسبوعي الى مساقطها، أو بلادها وبلاد أهلها الأولى، وزيارتها في أثناء الليل والعودة صباح اليوم التالي أو ظهره في أرتال مزدحمة من السيارات الخَلِقة أو الفارهة، وخَلَلَ غيمة عظيمة من البنزين والمازوت المحترقين ـ، آوى الأهلُ الأهلَ الهاربين من حروب بلدات الجنوب وجبهات المدن ومن الهجمات والغزوات وحملات التأديب والاغتيالات وثورات العداوات والعصبيات الجديدة والهاجعة.وفي الأثناء، في السبعينات والثمانينات، كان نشأ جيل جديد من الفتيان والشبان، كثير العدد، حصل تعليماً مضطرباً ورجراجاً، وشب على جوار وأهل منكفئين ومتجانسين توليا المثاقفة المدينية والسياسية، وعلى سوق "عمل" تترجح بين السفر الى جاليات الأهل المغتربين وبين استنقاع العمل الرخيص والمستقطع، والبطالة، والتكسب من حمل السلاح والمرابطة على حدود القرى وأجزاء الأحياء الداخلية و"بوابات" الطرق المتخيلة، والمخيمات الفلسطينية المتمردة، والموت قنصاً أو قصفاً أو ظُلماً" (على ما سمى الخمينيون اللبنانيون الأوائل القتل بنيران الأهل الصديقة). فبنى الجيل "الجديد" حقا، ومناط حلم انطون سعادة السوري القومي الاجتماعي عن جدارة، اجتماعه الأهلي وهويته على الخراب "الجميل" (أدونيس) هذا. ورسوم المكان، أو المنازل والإقامة والتجوال والانقطاع والاتصال، وجه اساس من وجوه إعمال الهويات وتداولها وبنائها ومنازعاتها وأحلافها.مسالك الاستيلاءواللجا (الشيعي) عيّنة من الرسوم هذه وتمثيل عليها. والمفترق ـ الساحة الذي تقدم وصفه هو احد الرسوم الشائعة في مجمعات سكن أو مربعات (أرباع المدن العربية ـ الإسلامية قبل التوسع الأجنبي الغربي) انتشرت في بيروت، وتغلغلت فيها، مع انتصاف سبعينات القرن العشرين. واندلعت الغزوات الأخيرة (موقتاً) في يومي 7 و8 أيار الميمونين، وربما الإلهيين قريباً، من محلة قصقص وأرض جلول ومقبرة الشهداء ـ جامع الخاشقجي جنوباً وشرقاً، إلى الحمرا ورأس بيروت وعين المريسة شمالاً وغرباً، وبين هذه وتلك رأس النبع والبسطتين وزقاق البلاد ـ كركول الدروز خطاً أول، وكورنيش المزرعة وبربور وسليم علي سلام ورمل الزيدانية ورمل الظريف والوتوات والصنايع وكليمنصو ـ جوستينيان خطاً ثانياً، والرملة البيضاء كورنيش المزرعة وعين التينة وساقية الجنزير والصنوبرة ـ قريطم خطاً ثالثاً ـ اندلعت الغزوات هذه على جبهات ومحاور نشأت عن هجرة الشيعة الى بيروت، ونزولهم بين أظهر أهلها، وعن رسوم الهجرة والنزول وملابساتهما وسياقاتهما.فانطلقت الهجمات (الوطنية وغير المذهبية) من النوى الأهلية الصلبة المتجانسة، والمأمونة الولاء والامتثال. فخرج المسلحون من "أمل" وهي غالبة في معظم المربعات والدشم الأهلية هذه، على خلاف الحال في معظم أرباع الضاحية القريبة، إلى أطراف مربعاتهم المتاخمة السكن السني أو المختلط (الدرزي والمسيحي والشيعي طبعاً الى الكثرة السنية)، والقريبة أو اللصيقة. وكانت أسطح المباني العالية، داخل مربعاتهم ونواهم، وأسطح المباني العالية على تخوم أحياء السكن "العدوة"، مواقع مراقبة وردع (إذا دعت الحاجة وهي لم تدع). فنشر عليها القناصة، وأصحاب المناظير بأشعة تحت الحمرا. وزعم المهاجمون ان الإجراء هذا رد على نشر فيلق المشاة الثالث والفرقة المدرعة الثانية عشرة في جيوش "المستقبل" (وحليفها "حزب القوات اللبنانية") قناصتهما بأعالي برج المر. وترابط في حديقة البرج وعلى مفترق طريق الصنائع وطريق ميناء الحصن سرية من الجيش يعرف بعض الأصحاب جنوداً منها يتقاضون رواتبهم من حرس مجلس النواب ولا يعملون إلا في "المناسبات".وتقدم المهاجمون، ببنادقهم الرشاشة ومضادات الدروع وقليل من أسلحة المضاد (السلاح الجو) والرشاشات الثقيلة والهواوين "الصغيرة"، داخل ديرات العدو المديني والأهلي، أو على طرق المواصلات الفاصلة بين الديرات والأحياء. ومهدوا لتقدمهم بنيران وقائية واستباقية رادعة، وهم على يقين من ان العدو السياسي، الأهلي والمذهبي على ما يرونه ويصورونه وعلى ما يصنعونه ويتمّون صناعته، هذا العدو غير مسلح. وهو لا يعقل ان يتسلح، ويستعمل سلاحه في مدينة إعمارُها هو إنجازه الأول، والشطر الراجح من تعريفه هويته السياسية والاجتماعية والأهلية. فلا يسوغ في ملة العدو واعتقاده تعريض عمارة هذه المدينة للهدم والتحريق والخندقة. ونقل خروج الجماعات المسلحة من أرباعها وحاراتها ودشمها السكنية، وتقدمها في ديرات العدو، من بؤرها وشرانقها ومعازلها الى قلب المدينة وشوارعها ومحاورها.فالعدد الكبير، وكثرة الروافد وتجددها، والتفاوت الاجتماعي الداخلي، لم تعصم الكتلة السكانية والمذهبية المتراصة من تحويل احياء سكنها جيوباً وحارات وحصوناً. فعلى أهالي بعض طرقات رأس النبع (الشيعة) الخروج من جيوب سكنهم ليبلغوا شارع محمد الحوت العام، أو ليبلغوا بالأحرى جادة بشارة الخوري العريضة، وشريان الوصل بين ساحة الحرية (الشهداء+ البرج) وبين قصقص وشاتيلا والغبيري من بعد. وعلى الأهالي هؤلاء والمسلحين، ان يخلّفوا وراءهم الخندق الغميق والباشورة والبسطة التحتا لينخرطوا في الأجزاء العامة والمشتركة، أي غرب زقاق البلاط والبطريركية ومار الياس والاستقلال ورمل الظريف. وإذا خلفوا وراءهم برج ابي حيدر وسعهم ان يقطعوا جادة سليم علي سلام، وإذا خلفوا اللجا قطعوا مار الياس، وإذا خلفوا الوتوات قطعوا ميشال شيحا (المفضي الى برج المر وإلى جسر فؤاد شهاب)، وإذا خلفوا بربور، ووراءه النويري وبرج أبي حيدر، قطعوا المزرعة الداخلية من جهة أو كورنيش المزرعة (صائب سلام) من جهة أخرى. ويستقبلون كورنيش المنارة حين يخرجون من شرنقتهم في وسط عين المريسة. وحيث افتقدوا البؤر والجيوب الأهلية العريضة، وهم يفتقدونها من ميناء الحصن ومار الياس وجزء من المزرعة والطريق الجديدة شرقاً الى البحر، غرباً، ما خلا بعض الجيوب القليلة، أعملوا رأس حربة "قومياً سورياً"، معظم مقاتليه الهواة من الكورة والشمال. وسمع بعضهم، وهو من عكار، يحمل على موظفين امنيين كانوا يقومون على حراسة مرافق محلية، وينعي عليهم عكاريتهم، على ما جاء في تحقيق نشره موقع "لبنان الآن".فالمسلحون، وأهاليهم وجماعتهم المذهبية العريضة، على رغم إقامتهم ببيروت منذ عشرات السنين، وبعضهم يتحدر من أجداد وآباء نزلوا خططها وحاراتها قبل 80 سنة أو 50 أو 30، هم (المسلحون والأهالي) ابناء انكفاء لم يبرأوا منه، وزاده العدد والتراص والتعصب عزلة على عزلة. فيتصور لهم دخولهم المدينة المختلطة المدنية والعامة، جماعات مرصوصة مسلحة أو متظاهرة، في صورة الزحف والفتح والاستيلاء. والحق ان التخييم في ساحة رياض الصلح (والشطر الجنوبي من ساحة الحرية استلحاقاً واستطراداً) كان قرينة فاضحة على ثقافة الحرب التي تعمر مخيلة هؤلاء وصدورهم وأفهامهم. وتسمية التخييم والنزول بأرض حرب واستيلاء اعتصاماً أو إضراباً، تزوير صارخ. ففي الاعتصام او الاضراب يتولى "أهل البيت"، أي العاملون في المرفق ومستعملوه والقائمون به، توقيف العمل أو الاستعمال أو التدبير. فكان ينبغي ان يقوم اصحاب المكاتب والمتاجر والعاملون باعتراض العمل والحؤول دون دوامه واستمراره.وأما التخييم، أو الإناخة العسكرية والحربية، فلا تتستر على مجيئها من خارج، وحلولها عنوة وغصباً بالأرض الغريبة. و"المعتصمون" المزعومون، وهم يشبهون أنفسهم بتظاهرات الطلاب "الجالسين" في جامعاتهم أو ترك العمال تشغيل آلاتهم الى صحن المصنع، خرجوا من جيوب سكنهم ودشمهم ومربعاتهم الأهلية، على جانبي جادة سليم علي سلام، أو من معاقلهم ومضاربهم في ظواهر المدينة، ودخلوا الساحات عنوة، وأوقفوا أعمال العاملين وأصحاب المصالح بالقوة و"الأمر الواقع". فآذن ذلك بعسكرتهم الأهلية و"البعلبكية"، أي العشائرية، على قول أحد اصحابنا. ووصلوا الساحات المحتلة والمصادرة بمضاربهم وديراتهم الداخلية. وأخرجوا هذه وتلك من دائرة بيروت، ونطاقها الاجتماعي والعمراني. وانتزعوها منهما، أو عولوا على انتزاع الساحات المحتلة والمصادرة من دائرة بيروت ونطاقها، على نحو ما انتزعوا مضاربهم وديراتهم من المدينة العامة والمشتركة (ولو أنها عامة ومشتركة على هذا القدر أو ذاك من العموم والاشتراك).الحرب والجسم المرصوصوهذه العلاقة بالمكان ورسومه هي كناية عن مفهوم هذا الضرب من الجماعات عن السلطة، ومباشرتها لها. فهي تحل "الدولة" وتنزلها على المثال نفسه، مثال الاستيلاء والحيازة المادية والتامة. ويترتب على المثال هذا حمل الجماعات الأخرى، على رغم اختلاطها واشتراكها في حيز عام متقاسم، على العداوة والأجنبية والهجنة، وحمل "بلادها" على غنيمة، وعلى دار حرب وغزو واستيلاء. فالحدود غير المرئية بين جيوب الجماعة المذهبية والمتوطنة وبين أحياء الجماعات الأخرى، المختلطة، أو النازعة الى "الصراحة"، تقلبها الجماعة المذهبية المتوطنة جبهات ناتئة الرسم. والصور والدشم والأعلام، المرفرفة والمرسومة على الجدران، والأنصاب أو المجسمات، هي ترسيم للحدود والتخوم الأهلية السياسية والأمنية والعسكرية. والبركة الرملية التي مر وصفها، والصورة المبروزة والصورة الورقية والأعلام والمعلقات المستطيلة والطويلة المتدلية على الجدران القريبة (معلقات البيعة)، أشبه بالمسالح بين الولايات. وهي ضرب من موقع جمرك ومن موقع مراقبة أمني.وقد تقتصر المسالح على لافتة معلقة على رأس طريق أو شارع، أو أوله. ففي مساء 6 أيار، قبل يوم من حملة المودة والموادعة على بيروت المختلطة والمدنية، كنت في سيارة تنزل نزلة البطريركية، وعلى جانبها الى اليمين مدرسة الحريري الثانية وعلى الجانب الآخر الى اليسار، ليسيه عبدالقادر. وكان نحو 10 الى 15 رجلاً يتجمهرون عند اول الطريق المؤدية الى رمل الظريف، وينتشرون حوله. وللوهلة الأولى، لم يظهر جلياً ما يجمعهم ويجمهرهم، ما عدا شبههم القوي بعضهم ببعض: فكلهم قصيرو القامة وغليظو الرؤوس والرقاب والأكتاف والصدور والبطون والمؤخرات والأفخاذ والأقدام، ويلبسون لباساً يكاد يكون زياً هو قميص خاكي قصير الكمين وواسع على "جينز" بالٍ وباهت الزرقة. فلا يشك الناظر إليهم أنهم "وحدة" أو جماعة، من غير ان يُعلم علام يجتمعون ويتوحدون.وعندما استداروا، ومشوا على خلاف الوجه الذي كانوا يقصدونه، انتبهتُ الى الموضع الذي يغادره آخر واحد او اثنين من جمعهم، فإذا به لافتة خط عليها "من انتصارنا لن ينالوا" (فهم لا يحيدون عن ابتكاراتهم اللغوية والإنشائية) بين صورة لرأس زعيم "أمل" وصورة لرأس حبيبه وصديقه زعيم الجيش الخميني. وقفلت الكوكبة من المناضلين، بعد ان رفعت اللافتة ونصبت الراية في أرض العدو، عائدة الى مضربها. وكان عرض القوة المسالم بمنزلة التكشير عن الأنياب. فلما اطمأنت الى هيبتها، أخلت مكاناً يقع خارج "بلادها"، ولا ترى غضاضة في الاستيلاء والتسيد الرمزيين عليه، على نحو ما لن يردعها رادع عن مهاجمته في اليوم التالي بالسلاح، أو عن حراسة انتصارها الحاسم والقاطع عليه، وعلى أهله، بواسطة شبان مسلحين ومتحلقين على أمتار قليلة من محطة محروقات قريبة. وفي صباح 8 أيار، كنت أمر بقرب المسلحين المتحلقين، قاصداً عملي من طريق من الطرق المواربة التي قسر احتلال المسلحين المذهبيين المدينة المواطنين عليها. فلما تجاوزت مسلحاً كان ينتقل من جهة من الطريق الى أخرى، سمعته يقول: "بيروت خط أحمر، ها!"، فهو يجهر ما تكني عنه اللافتة القريبة: إرادة الاستيلاء والاستعلاء والوطء.فنشر المستولون الفاتحون راياتهم على الطرق والمفترقات، وعلقوا اللافتات في مدائحهم و"صريخهم" (أو شعارهم، والشعار هو الصريخ، أي صيحة الحرب)، وكأنها أقواس نصر، يمر تحتها المارة ويطأطئون الرؤوس. وركزوا الرايات، على ما كان يقال في خطابة الحرب، عالية، تشرف على الناس المنقلبين رعايا يرعاهم (من الرعي) أهل السيف، وأهل "العلم" المخزون في صحائف الصدور. وفضيلة الرعية هي الطاعة والانقياد والإذعان، على قول "سوري" مشهور. وتنشر الرايات في بلاد الفتوح والاستيلاء، وتترك هناك، حيث قد لا يراها أو ينتبه إليها، وحتماً لا يواليها أحد. فترى الى اليوم، بعد انقضاء ثلاثة أشهر ونصف الشهر على "فتح" 7 أيار، أعلام "القوميين السوريين" السوداء وزوبعتهم السلتية والنازية القانية منكسة وخَلِقة على أعمدة الكهرباء. ويفترض أصحاب الأعلام هذه، شأن أوليائهم وأصحاب سلاحهم وقيادهم، أن أعلامهم تعلن على رؤوس الأشهاد انتصارهم، وسيادتهم وتوليهم الرئاسة على اهل الحمرا وجوارها وفروعها. وأهل الحمرا، ومستعملوها (على وجوه الاستعمال المتفرقة من عمل وإقامة وامتلاك ومعاملة)، براء من هؤلاء، مستولي نهار وليلة.وعندما استولت القوات السورية على بيروت، أو شهرت استيلاءها، كان من أول الشارات التي استحدثتها، من طرف واحد، لصقها صورة حافظ الأسد على أعمدة مطار بيروت الدولي الداخلية على مرأى من المسافرين. وبقي الرئيس السوري يحدق في المسافرين، ويدعوهم الى السفر من غير عودة، الى حين هدم رفيق الحريري المطار القديم، وجدد بناءه. فكانت الصورة بمنزلة الضم الى "الشعب الواحد"، وإلغاء الدولة الثانية. وحين حسب الحزب الخميني المسلح انه في طريقه الى الاستيلاء والتمكن، غداة "تحريره" الجنوب، ونقل السيادة عليه الى وكلاء الباسدران و"القوات الخاصة" ("قوات الموت" على ما كانت تسمي نفسها)، نصب أنصاباً مصورة لأئمته وأولياء أمره من حكام ايران وأسياد شعوبها وساساتهم. ويبدو ان مفاوضات اليوم على نزع الصور ورفعها ترتطم بالأنصاب المصورة هذا، وبإصرار الخمينيين والصدريين (محازبي "أمل") على إخراج المطار (الدولي) من دائرة المفاوضة والمبادلة. وكان زعيم "أمل"، وصاحب الرقم القياسي في الصور المرفوعة، على رغم تواضعه وحيائه ورغبته المحمومة في تدمير الصور منذ "مشادة الصور" البيزنطية في القرن الثامن الميلادي، استعجل نزع الصور والأعلام. ويندب المستولون مواليهم وأنصارهم الى التمتع في "الحق في الصورة". فمنذ 7 ـ 8 أيار وصور "المهندس فؤاد مخزومي" ولافتاته الخيرية والانتخابية، مرفوعة أو معلقة على ما لا يحصى من الجسور والجدران والشجر وعواميد الإنارة والعيدان. وهذا الريع يدين به المهندس ورجل الأعمال السخي، وصاحب المال غير السياسي، على ما يرى ربما سليم الحص وجميل السيد (من وراء القضبان)، يدين به الى مشيه في ركاب أهل القوة المستولين.والأعلام واللافتات والصور والشعارات تصنع سيادة، وتندب الى ولاية الأمور، في مرآة ذهنية سحرية ترتب عالم أصحابها ودنياهم على مراتب: ففوق يعني العلو والسمو والشرف، وتحت يعني الدنو والضعف والمهانة، والكثرة الظاهرة تعني القوة والسلطان، والقلة الظاهرة تعني الامتثال والالتحاق، والكلام الكثير والجازم والصلف يعني الحقيقة والشجاعة والنفاذ، والكلام العامي والموازن بين الأمور والمتواضع يعني التعثر، إلخ. فلا يشك اصحاب الأعلام والسلاح ان راياتهم الكثيرة هي عنوان سلطانهم وسيطرتهم ورجولتهم، وعنوان "دولتهم" تالياً، وأما تربع الدولة في إرادات المواطنين المعلنة، وصدور الأمة عن استفتاء المواطنين، فـ "فكرة" غريبة عن أذهان أهل الحارات والمعازل والجيوب و"الأحزاب". فهم يصدرون عن اجسام عصبية وأهلية مرصوصة، تعلوها رؤوسها ورئاساتها "الطبيعية" والملهمة. وأما الاقتراع، وتقسيم السلطات وتعاونها، واستقلال المجتمع عن الدولة، واختصاص السلطة والقانون والمعرفة بمعاييرها، والمساواة بين المواطنين، فتؤدي الى تفكك الجماعات أفراداً، وإلى تقييد السلطة، وتَقلّب الناخبين بين غالبيات وقلات تطيح الثوابت والرؤوس وتجددها. فتتصدع المراتب، ولا يستقر فوق ولا تحت، ويجرد ما كان قدساً ثابتاً من قدسه، ويبطل التوكيل... وهذه تشبه مقدمات خروج الدجال والأعور الديموقراطيين والليبراليين.وعلى هذا فالسحر المنبعث من الأجسام المرصوصة في دشم اجتماعية إسمنتية، يبدو مأمون العاقبة قياساً على ما يترتب على الأخذ بالهيئات السياسية والاجتماعية المحدثة، والقائمة على التمثيل والمساواة والمنازعة والجواز والإرادات الحرة. ويصل الاعتبار هذا، وهو اعتبار مدرك ومعلن وتدور عليه كتابات فقهية جليلة وأخرى تاريخية واجتماعية فكرية أقل جلالاً وقوة وتفويضاً، يصل ما قد يبدو فولكلوراً بلدياً، و"حكي قرايا" بعيداً من السرايا الشاهانية والثوروية السرية والسردابية، بالسياسات الكبيرة، والتغيرات العسكرية والاستراتيجية الكونية، على قول اعيان المذهب وحلفائهم (فحطَّ الرأي هذا على لسان عمر كرامي، الأفندي الطرابلسي، فقال، وهو القائد الميداني المجرب، إن "حرب تموز" غيرت المقاييس والمعايير العالمية، وهو حدّث عن ثقاة معصومين).فالأجسام المرصوصة، أو الدشم الاجتماعية والمذهبية المحلية، المسورة بالأعلام والصور واللافتات، والممتلئة تعصباً وإيماناً (ايمان الأعراب القرآني) واحتشاداً وسلاحاً وبطالة، هذه الأجسام جزء متين، وركن من أركان كتلة اقليمية عريضة. وتضوي الكتلة هذه "دولاً"، تقر لها العلاقات الدولية بهذه الصفة، ولا يسع "المجتمع الدولي" نفيها منه على رغم معرفته بمروقها ونهوض سلطانها على الاستيلاء في الداخل والخارج. فتتوسل بصفتها ذريعة الى مد نفوذها، والتسلل الى ثنايا الجماعات في الدول الوطنية الأخرى، والمفاوضة على مصائرها مع ذوي الإرادات "الطيبة"، والناشدين أدواراً وأوزاناً لدولهم وأحزابهم وأنفسهم. ولكن يد الدول المنتحلة الصفة هذه، أي عصبياتها المستولية، كانت لتكون قصيرة ومكفوفة لولا الحارات والجيوب المنتشرة في البلاد كلها، ولولا انكفائها و"كبكبتها"، على ما كان أصحاب النظر يقولون في قتال الخوارج. فالحارات والجيوب "المتكبكبة" تتولى الغارات على الجبهات والمحاور المبثوثة في البلاد والجماعات والأحزاب والنقابات والإدارات والهيئات والأسلاك والعائلات وبني العمومة وبني الخؤولة والطبقات الاجتماعية. والرد عليها يورط الراد، دولة كان أو سلكاً أو، ويورده مورد العدوان على "الشعب". فالدشمة تنقلب الى "الأمة" من غير نصب، وتتصل بالجيوب الأخرى، وتنشئ "محوراً" سمة سياسته، الى تخريب الدول والمجتمعات، المطاولة. فوقت المحور يدوم طويلاً، على قول ديغول.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق