المستقبل - الاحد 14/9/2008 -
قرن على تقصي رفاعة رافع الطهطاوي "مناهج الألباب المصرية الى مباهج العلوم العصرية"، ذهب كاتب مصري الى أن مبعوث محمد علي باشا الى "باريز" و"إبريزها"، ولم يكن الكتّاب يقولون "نكهتها" على ما يقول ذواقة العصر وكتبته، سبق كتّاب العربية وبلادها الى مفهوم الوطن والوطنية الحديث. ويترتب على المفهوم، وحداثته، إرساء رابطة "أهل" الوطن أو وطنيتهم على اشتراكهم في تاريخ وأرض ودولة. فينفون أنفسهم من رابطة العصبية القومية، على معنى الدم والقرابة والنسب، وهي رابطة قد تضيق فتقسم الوطن أوطاناً كثيرة متقاتلة، وقد تتسع فتضم جماعات في الداخل الى أخرى في الخارج، وتؤلب الحلف على الداخل والخارج. ويخرج "أهل" الوطن من رابطة العصبية الدينية على وجهها السياسي والسلطاني. والرابطة هذه تنسب أصحابها الى جماعات أضيق من الجماعة الوطنية أو أوسع. ويترتب عليها ما يترتب على رابطة العصبية القومية أو الأهلية من انقسامات وأحلاف واقتتال.ومن يقرأ "مناهج الألباب" يقع من غير شك على عشرات الصفحات في الوطن والوطنية. وتتناول صفحات كثيرة مصر، بالاسم. ولكن ما يقع عليه القارئ المتأخر، زمناً ووقتاً، هو جوار الكلمتين أو اللفظتين كلمات وألفاظاً مشتقة من "وطن": الموطن والمواطن والتوطن والأوطان والتوطين والاستيطان، الى مرادفات مثل المرابع والمظان والمسارح والدار والديار... ويجمع شيخ طهطا ومتعلمها الكلمات هذه في سياقة متصلة، ويتنقل بين الكلمات والمعاني، ويخلطها بعضها ببعض. فتشتبه على القارئ المعاني، وتضيع معالم تمييز المعنى من المعنى. فيذهب به الظن الى أن الطهطاوي لم يبتكر ربما معنى الوطنية المحدث والجديد، في غرة الثلث الثالث من القرن التاسع عشر، بل ابتكر المقالة الأدبية العربية "الحديثة" على مثالها المعروف والسائر مذ ذاك. ودأب المقالة هذه تضييع حدود المعاني، وإخراجها من سياقات متماسكة الى مزيج ذائب ورجراج قوامه "نفس" الكاتب ومشاعره و"أفكاره"، على معنى أحكامه. فلا يرتب الكاتب مقالاته على نظام المعقولات والمفهومات، ولا على نظام المواد، بل على أهواء النفس، وأصداء الكلمات والألفاظ فيها.فإذا أراد سليم باسيلا ("النهار" اللبنانية، في 28 آب 2008) إشراك قرائه في إعجابه بشعر مارون زخور، "الأستاذ الرئيس"، في امرأة كتب الشاعر القاضي فيها شعراً، جعل الكاتب الذواقة والمعجب مختارات شعرية ونقدية وإخبارية فرنسية، في لغتها، بإزاء منتخبات يستلها، على قول أحد أصحابنا، من شعر مارون زخور. ومعيار إعجاب سليم باسيلا بشعر مارون زخور، في ضوء مقابلاته ومقارناته وتنظيره (أو وضعه الشيء نظير صاحبه ومكافئه)، واضح وجلي، وهو انقياده للتقريب من المعاني المختارة الفرنسية، ومؤاتاته التقريب هذا. ويذهب باسيلا، في بعض مقارناته، الى القضاء بتفوق شعر صاحبه وممدوحه على المثال الأجنبي وميزانه. وهو يوجب القرب، أو المضاهاة والمكافأة، أو التفوق والسبق، على هدي مَلَكته الحاكمة في ميزانه، ولا يهتدي بما قد يقتسمه والقارئ، ويتشاطره وإياه.الأولمب وعبقروملكته هي هو، أي ما يحب ويهوى. ويدعوه توحيده ملكته وذائقته بنفسه الى سوق شواهده في اللغة التي عرفها بها، وتذوقها وأكبرها. فلا ينقل منها الى العربية إلا ما غلب عليه النثر، والمعنى الذهني، وربما النظير القاموسي. فتحرس العبارة، في اللغة الأم، بكارة الذائقة، ومكنون المعنى، وطويته المستترة. وهذا شأن من يحسب ان النقل من لغة الى لغة، أو من لغة أم الى لغة أم، انتهاك وفظاظة لا يليقان بالشعر و"أناقته"، على قول باسيلا. وهو شأن غريب قياساً على ما فيه الكاتب، وعلى حاله. فهو يمدح ويعجب مقارناً ومقابلاً. ولكنه يشترط ان يبقى القرينان كل على ضفته، فيستوي الأولى على قمة أولمبه، ويهيم الثاني في وادي عبقره. وبينهما صاحبنا وكاتبنا، يقر بأذنٍ الأولَ على بديع قوله، ويجزي الثاني، بأذنه الأخرى، على قوله، مديحاً، ويطمئنه الى حسن قوله وشعره.ولعل خطابه "الأستاذ الرئيس" افتتاحاً، وفي الانتقال بين فقرات الرسالة، وختامَه بالسلام على مخاطبه، قرينة على اشتمال الكلام، وهو المباح على صفحة صحيفة ذائعة الصيت، على الكاتب المادح والشاعر الممدوح. والاثنان غنيان عن النقل. فهما يسمعان بأذنين وبعاقلة واحدة، على قول بعض المتكلمين. وأما القراء فنافلون، أو مسلِّمون بإعجاب الكاتب المعجب، ومشاطروه رأيه وقضاءه من غير شك ولا مسألة. وهم، على هذا الوجه كذلك، نافلون. وشأنهم شأن الخلق في الحديث القدسي: قصاراهم ان يُعرف الكاتب، وأن يعرفوه، وهو المستغني بنفسه عنهم، وعن قراءتهم وفهمهم ومعرفتهم.ولكن الترفع الظاهر عن الترجمة يبيّت، من حيث لا يريد باسيلا على الأرجح، استطراقاً يقرن أجزاء الكلام التي يصبها الكاتب في آنيته، بعضها ببعض. فهو يبسط نثراً ما يقدّر القارئ ان مارون زخور قاله شعراً، ويجعله باسيلا نظير قول لأراغون في إلسا (ويغفل الكاتب المحامي عن ان "جامع" الشاعر الفرنسي في صاحبته الروسية الفرنسية، "مجنون إلسا"، نقلت مئات صفحاته، وآلاف مجازاته وتوقيعاته، الى عربية قد يليق بالناقد الذواقة القول فيها برأي، منكراً أو مستحسناً. وهو يلمح الى رينه شار، وبعض مجاميعه الشعرية نقل الى العربية منذ عقدين، من طريق ناقد أدبي فرنسي، فيقتطف منه حكماً عاماً في إيجاز شار الملهم، وهذا قول أشبه بـ"الطورطة"، على قول عامية المصريين، "في الكريما"، على قول الفرنسيين هذه المرة، كناية عن "أدب" صالون السيدة فردوران، محجة السيد سليم باسيلا منذ زمن سحيق، أو أدب السيد هوميه، الصيدلاني الذي يحسب باسيلا حانوته مجلى شمس تبريز).ويكتب أراغون (وهذا من محفوظات طلاب السنة الثانوية الثانية): "عيناك عميقتان، فإذا مِلْت عليهما لأستقي رأيت الشموس تَرِدهما مترائية". ونظير "المعيار" هذا، يكتب باسيلا ناثراً، على ما نخمن ونحسب، "شعراً" ينتهي إلينا في صورة النثر: "المرأة التي ذهبت إليها في قصائدك، ذهابك الى كلمة أقبلت عليها فكأنما تقبل عليك، فتنفرد بك، وتنفرد بها، وتطرب لها، وتلبث على طرب معها، وتنظر عبرها، من آنة الى آنة، الى نجمة تُناقِلها وتناقلك بعضاً من ألوان هواك، وأفنانه...". وإلى أي رأي ذهب الواحد في قول أراغون ـ وقد يعلم الناقد المحامي، ومستشهد جيلبير سيغو في فرنسواز ساغان، ودوبوا ـ دوفير في سيمون دو بوفورا، وجان روسلو في رينه شار، من غير دعوة واحد أو واحدة الى الشهادة ولا وكيل له، قد يعلم ان كاتباً فرنسياً "كبيراً" هو جان ـ فرنسوا ريفيل، أسقط أراغون، مادح ستالين، من "مختارات" من الشعر الفرنسي، ونفاه منها ـ فقد يجد عسراً في تقريب قوله هذا من "شعر" صاحبه، في صورته المنثورة أو النثرية.وليس مرد العسر الى فرق "القيمتين" الجماليتين و"المستويين" وحده. وهو فرق يدعو الى تسويغ المقارنة والموازنة، على التقليل. واختار الناقد المحامي والمنشئ (مدبج الإنشاء) ترك التسويغ المعلن الى الإطناب في المديح والتقريب، وإلى الحمل على الصدوع والرضوخ استحياء، ومن غير سؤال. ومرد العسر، على ما أرى، الى فرق بين معيارين ("شعريين") لا يشتركان في شيء. فـ"الكلمة" التي يقبل عليها الشاعر "فكأنها تقبل عليـ(ه)" ترد الى ميزان يرجح فيه توارد القائل وقوله، على معنى امحاء الصنعة، والمناسبة بين صاحب القول وبين قوله أو مقالته مناسبة رحمية ومقدّرة قبل ولادة الشاعر، ومحاولته الشعر. وجواز قراءة القول على وجهين، وجه الشاعر و"كلمته" ووجه الكلمة نفسها، متناظرين، فكأنهما وجه واحد، الجواز هذا أسطوري و"إلهي" على المعنى المبتذل الذي شاع عن وسطاء ومدبرين ووكلاء مجسمين ومشبهين، ينفخون في المزمار، ويتألفون العامة والأفاعي، على ما وصفهم المسعودي، صاحب "مروج الذهب". والجوازات والمعاني هذه خلّفها الشعر والشعراء وراءهم في ثقافات كثيرة، منذ عقود تعد بالعشرات، أي منذ غادرت الآلهة الأنصاب والصور والكلمات، وتركتها خاوية على عروشها، وتركت العالمَ فقيراً معدماً وأبكم.وهذا خلاف "عالم" سليم باسيلا "محدِّثاً" عن مارون زخور وراوياً ومنشداً. فإلى المناسبة بين الشاعر وبين الكلمة، وبينه وبين المرأة، يقر "العالم" هذا المرأة والكلمة على آصرتهما بالنجمة، وبألوان الهوى و"أفنانه". ويتوج "الطرب"، واللَّبث عليه، قرار الأشياء على أواصرها ومنازلها. والشاعر والمرأة والنجمة والهوى والألوان والطلب واللبث، كلها من ورق مقوى، ومجسمات يعلقها الأولاد على أشجار الأعياد المصنوعة من بلاستيك. فالافتعال هذا لا يمت الى "الحياة" الشعرية، على أي وجه تصورت أو حملت، برابط أو سبب. ومناجاة الأنجم والليل بالهوى، كانت بعضاً من غناء أسمهان وأم كلثوم ومحمد عبد الوهاب، ومن أحلام مراهقة بدوية. وعلى هذا فهي قد توقظ في جمهور شب قبل قرن على مراهقة مثل هذه، ولا تزال عميقة الجذور في اللغة ومعانيها وصورها، فتشبِّه على صاحبها أو أصحابها (فهم على الدوام جمهور وجماعة) تعويض الزمن وتبديده، والرسوخ في الكون والواحد. والإقامة على تناول العالم والآلهة واللغة على وجه الامتلاء بالنعمة، والحط بالنعمة الى علة طرب، غفلة وسهو في معرض كهانة ورؤيا.تأليف المختلفوتحمل الغفلة الكاتب الغافل على مساواة أو مكافأة العينين، البئرين، النبعين، الماءين ـ والعينان، من طريق حلقات الاشتقاق هذه، وليس التداعي وحده، هما سُلَّم الى المصدر المتجدد، والولادة من العتمة، واتصال دوائر الليل والأرض والحمل بدوائر النهار والسماء والمرآة ـ، بـ"مليحة القسمات"، تلك التي "في قدها طول، وفي صوتها غنة، وفي مشيتها مرح (...) شديدة الخفر، طويلة الصمت (...) وكأنك من وفرة حسنها لا تراها". فيسأل القارئ، بعد نقل تقريبي الى العربية، وسمع تقريبي الى القول: بمَ تشترك المرأتان؟ ويشترك الشاعران والقولان؟ فالمرأة التي يمدحها سليم باسيلا، شارحاً ربما على مارون زخور، قد يجدها القارئ، أو يجد أخواتها ومثيلاتها في كتب الأخبار العربية العباسية أو الأندلسية، وفي رسائل القيان والجواري والحرائر. وقد يعثر، اليوم، عليها أو على أخواتها، في صور باب "المجتمع"، و"المجتمع" هذا يبدل اسمه بـ"لايف ستايل" من غير ان ينتبه "الأديب" ذو اللغتين الى التبديل. وليست هذه حال "رفيقة أيام" أراغون (وما دام المحامي الأديب يتسع وقته لقراءة "الأزمنة الأدبية الكبرى" فقد استجمع شجاعتي وأنصحه بتصفح كتاب أندريه تيريون "ثوريون من غير ثورة"، وفي بعض فصوله يروي السوريالي السابق مشاهد من لقاءات أراغون وإلسا تريوليه الأولى، فلعله يرجع من حسبانه ان رفيقة أراغون تشبه رفيقة صاحبه وممدوحه، أو من ظنه ان الشعر يقص "الحياة" أو الواقع، على قول نقاد شيوعيين ماضين على تحرياتهم).وتكر المقارنات بين صاحبة زخور المفترضة وبين "نساء" ينتخبهن الأديب المحامي من أخبار مشاهير الفرنسيين والفرنسيات، و"بيبولهم" و"بيبولهن"، ويحمل مقالة صاحبه (في صاحبته) على مقالات الفرنسيين والفرنسيات، ويجعل الواحدة نظير الأخرى. وعلى مثال الفرق بين صاحبة أراغون الشعرية وبين صاحبة مارون زخور، وهو فرق ينسب المرأتين الى قبيلتين أو شعبين أولين لم تجمعهما يوماً ديرة أو يجمعهما حلف أو صهر، يقرِّب الكاتب البعيد ويزعم التأليف بين المختلف والمتنافر عنوة وقسرا. فيحسب، ويريدنا ان نحسب أن المرأة التي تكتب "لستُ غير غبار"، و"لا أسعد بالحب، ولا بزواله"، تقول ما تقوله امرأة "دعني أرحل": "لا قمر يميل بي، ولا مطر يبلل شعري الطويل... أنا بقايا ما كنت". ويغفل عن ان امرأة صاحبه نرجسية مدللة، تعتب على الزمن صنيعه بالفتوة والشباب، وتنسب الى صاحبها استنفادها: "ماذا صنعت بي،... لم يعد في فستاني زهرة لم تقطفها، ولا عطر إلا تشممته..."، على ما تفعل نساء "نسويات" يطلبن الى أزواجهن تعويضهم استهلاكهن في العمل والبيت والحمل والأمومة، واستنفادهن فيها. والمرأة هذه خلو من منازعة لا تقر على قرار، ولا تسكن الى جناح. فهي من معدن معنوي غير معدن تشبيهات سعيد عقل ونزار قباني والأخوين رحباني ومحمود درويش وكناياتهم وتورياتهم.فما يدعو الكاتب الى عقد مقارنة تنتفي شرائطها، وإقحام الشبه على ما لا شبه فيه ولا قرابة؟ والحق انه كيفما قلَّب قارئ الوجهين، الوجه العربي لغة والوجه الفرنسي لغة ورواية، وهما طرفا المقارنة المفترضان لم يقع على وجوه شبه تتصل بالشعر وبأنحاء القول. فالتشبيهات، على الوجه العربي، حسية ومادية، على قول النقد المدرسي. والصورة، على الوجه الفرنسي، معنوية ومضاعفة. والتشبيه، على الوجه العربي، مطابق ومشبع ولازم. والمجاز، على الوجه الفرنسي، مركب ومرسل ومتعد. والمنازعة، في الشواهد الفرنسية، تتطاول الى النفس. وتحمل النفس على استقبال مالا قوة لها على التسليم به، ففاجعتها بحالها هذه هي خلق جديد لها، على حين يقتصر القول العربي على تقرير واقعة هي من طبائع الأشياء. ولا يزيد القول عليها غير صفة أو طبع، ولا "يخلقها خلقاً جديداً"، على قول غاستون باشلار في تمييز الصورة (الشعرية) من التشبيه أو التمثيل.وتقرير الواقعة، أو زيادة الصفة والطبع، يقصّر عن إرساء "المخلوقات" الشعرية على بعد مزدوج أو مثنى تشرف منه على الكون إشراف النفس المتفكرة أو المتخيلة أو الراغبة على موضوعاتها. فالشموس المترائية في عينيها العميقتين، وفي بئري استقاء العاشق، إنما تلدها رغبة العاشق في قاع لا يبلغ، المرأة مستودعهما (الرغبة والقاع) ومعينهما. فاستقاء العاشق وترائي الشموس يصدران عن اصل يُخمَّن واحداً، يترتب على عدوى العاشق الشموسَ، وهي خلاف الماء ضوءاً وعلواً، وانقلاب الترائي استقاء ولقاء. فتتوالد الصور والمعاني، و"تنفجر وتتلألأ"، على قول باشلار كذلك، وتتردد اصداؤها وولائدها لا إلى غاية. وهذه الحال، (وتمثيل أراغون عليها ضعيف) مردها الى محل الشاعر من اللغة، وتسليمه لها، ورضاه التعويل على ما لا يعلمه، لا هو ولا "ثقافته" التي يشترك فيها وجمهوره، من "مقاصدها"، وانقلابها من المجهول الغريب الى المفهوم غير الأليف. ولعل الأمرين، التثنية والتسليم للغة، هما سمتان بارزتان من سمات الحداثة الشعرية. ومن طريقهما خرج الشعر من ملك المجازات والكنايات أو الصور وسلطانها، الى بناء وإنشاء لغويين، على غير مثال.والحق ان الحداثة هذه لا تقتصر على الشعر. فهي إيذان عام بالانفكاك من المباني والمثالات السابقة والمفترضة مضمرة ومحفوظة، ومن استيداعها معانيَ الأفعال والحوادث والكائنات ورسومها. ويقتضي هذا من النثر ان يستوي فناً بدوره، وأن ينشئ أغراضه، ويبلغها من طريق اللغة. ويقتضي من الفعل السياسي والاجتماعي والاقتصادي، على أنحاء مختلفة، مثله، أي إنشاء الأغراض والمعاني والغايات من طريق الفعل، وعلى غير مثال. وعندما نكتب، نحن أهالي العربية، أو اهالي اللغة والمعاني، ننحي اللغة جانباً ونطرحها، ونطير في فضاء النفس، وأخيلتها ومشاعرها وصورها، ونحسب النفس هذه مجردة من اللغة. ونحسب ان بلوغ قمم النفس العالية، وذراها الشاهقة، لا يقتضي لغة، ولا عبارة، ولا شكلاً، ويقتصر أمره (أمر البلوغ) على الاسترسال مع منازع النفس الحارة والمحمومة. ولا تحتكم منازع النفس هذه الى غير هيهيتها، أو مساواتها بنفسها (فإذا هي= هي من غير بقية). فيقول سليم باسيلا في صاحبه: "يبقى من قصائدك أنك انت صاحبها".عَلَم ومسحةوإذا كان الأديب "التقليدي" تمثيلاً يسيراً وسهلاً على اطراح اللغة والعبارة، وعلى التسليم للنفس الخالصة وبدائهها المفترضة، وحمل التهويم في فضائها على ذرى الشعر، فالمحدثون، أو معلقو "أعمالهم" وأنسابهم على الحداثة، ليسوا أقل اطراحاً (للغة) وتسليماً (للنفس الخالصة) وحملاً (للتهويم على ذرى الشعر). فيكتب روائي مفترض، يحسب "رواياته" ومقالاته وسياسته وصداقاته (وهي جزء راجح منه ومن محله "الثقافي") طليعة الحداثة، ويقر له أصحاب ورفاق وزملاء كثر بصدق حسبانه، يكتب في رثاء صديقة رحلت وتأبينها وتحيتها: "... كان بيتها ملتقى الأصدقاء اللبنانيين والسوريين والمصريين، الذين جمعتهم أسئلة البداية، وسط الحرب الأهلية اللبنانية ومآسيها" (الياس خوري، ملحق "النهار"، 31 آب 0082)، وأنقل علامات الوقف على ما هي في الأصل).و "أسئلة البداية"، في المعرض هذا، شارة أو عَلَم اصطلاحي يوجبه الكاتب على حدة من قارئه، ويلزم القارئ بالإقرار به، وبامتيازه وشرفه، من غير إفشاء مكنونه وسره. فهو، من هذا الوجه، أشبه بالأخبار الفرنسية التي يُدل بها سليم باسيلا على القراء. فمن وسعه أن يقرأها، وانحاز الى تأويل الكاتب لها وإعماله إياها، دخل في الفرقة أو الشيعة الباسيلية، ومُسح بمسحة الصفوة، وتكشفت له الأسرار، وهتكت الحجب. فتنقل بين أحضان أراغون و"رفيقة أيامه" وبانجمان كوسنتان ورينيه شار وفرنسواز ساغان ودي شاريير، الى آخر حبات العنقود. وما يقوله سليم باسيلا من طرف ساذج، وينثره، ويترك للقارئ جمعه أو الرفرفة المنتشية في أثيره المسحور، على ما لا يشك باسيلا في شواهده وعصيِّه من الوديان المتباعدة، ويجمعه الياس خوري، ويختصره في "وسام" يعلقه "على الوجه"، على قول زميله الروائي والصحافي سليم نصار.و"أسئلة البداية" هذه، أو الوسام على وجوه "الأصدقاء"، والأرجح ان الجناح الفلسطيني منهم أُغفل أو أنه مستبطن في الأجنحة الأخرى الظاهرة (اللبناني والسوري والمصري)، هذه الأسئلة لا تلبث ان تبعث من طريق المضاف إليها (البداية). فالصديقة المرثية "شقيقة صغرى للجميع"، و"طفلة حائرة". وهي كبرت، "لكنها بقيت صغيرة". وبقيت تدور في دائرة "وعد بشي يبحث عن بداياته". و"البداية" الملحة هذه لا يخرج الموسوم بها، والممسوح، من دائرتها المسحورة. والمرثية لم تبلغ بعد سطرها العاشر في زاوية ضيقة من زوايا الصفحة. وتواتر "البداية"، لفظاً ومعنى، من غير بسط ما تكنه اللفظة وتشتمل عليه، إمعان في الإعلام، أي في إثبات صفة العَلَم والشارة والمُعلَم، وفي الاقتصار عليه. فـ"البداية"، و"أسئلتها" بالأحرى، غنية عن البسط، والخروج من النفس الى علانية مشهودة قد يتناولها كلام ومحاورة ومداولة. وينتهي تداعي الجمل هذا الى إقرار بجهل "سر هذه المرأة". فتطوى "البداية" في "سر" مزدوج، هو السر الخالص، وسر المرأة.وإفضاء "البداية" الى "السر" المجهول لا يؤذن بختام التعمية وحُجُبها. فيمر الكاتب من هذا (السر) وتلك (البداية) الى "داخل" المرأة، وسريرتها (وهذه من السر أو السر منها). فهي "حملت في داخلها" ما هو أبعد من السر وأعمق، حملت "حلم اليسار اللبناني". ويدق الأمران، المضاف والمضاف إليه، على التصور، أو هما يدقان على من لم يشاطروا "أهل أسئلة البداية" اسئلتهم وبدايتهم. ولا سبيل لهم الى مشاطرة خصوا بها لعلة لا "يدريها" أحد. وقد لا يدرونها هم، أهل الخاصة والنخبة. ولكنهم هم، الصفوة المختارة، لا يبالون. فهم من معدن الأسئلة والوعود والبدايات والأسرار والسرائر والأحلام. وغيرهم من مادة إنسية عقلانية ولغوية أدنى هي مادة الظاهر والعلن والأجوبة والحوادث. وإذا عَرَض لبعضهم ان يتناول "الذاتي والعائلي"، على ما فعلت السينمائية الصديقة في بعض أفلامها (ووسم الفيلم، "حروبنا الطائشة"، ينضح النرجسية المتعالية التي تُلحق حوادث الناس الجسيمة والمميتة في أوقات وأحوال نفسية تخلف في قلوب القوم ما على الجمهور والعامة الحدس به من بعيد وإكباره وتعظيمه) فهي لم "تتوقف عند(هما). فهما ذريعتها ووسيلتها الى "الحلم". وإذا "تجسد" الحلم، وهذا تواضع يسوغه ربما عسر تناول السينما ما ليس بجسد، فسرعان ما لفه "حجاب الموت"، وتوجته "هالة الشهادة" المنبعثة من "(حمل) آلام فقراء باب التبانة وغضبهم وثورتهم المجهضة".مرتبة الكهانةوعلى هذا، يدخل الياس خوري، كاتب المرثية، الألفاظ المنتقاة والمُعْلَمة في دائرة تتردد اصداء الألفاظ فيها، ويرد الصدى الى صدى من غير اضطرار إلى الإعراب عن معنى قد يتعقبه القارئ لنفسه (لنفس المعنى)، ويسأله الدلالة على حادثة او واقعة أو أثر حياة او علاقة بما ليس لفظاً آخر يردد بدوره صدى يمر لا الى غاية. فالكلام لا يقصد الدلالة والعبارة، ولا الإشراك فيهما وتداولهما. وقصاراه رفع نصب يعلوه صاحب الكلام المأذون او يحله ويتجسد فيه. ورصف "اسئلة البداية" و"الوعد الباحث عن بداياته" و"الموعد مع البداية" و"الحلم" و"حجاب الموت"، الخ، وسلكها في سلك متصل، يمهدان المحل العالي الذي يريد الكاتب صدور كلامه عنه، والاستواء فيه. فصدور الكلام، مرثاة أو مقالة "سياسية" أو تأملاً أدبياً أو "رواية"، عن جوار البدايات والنهايات وحجب الموت وآلام الفقراء و"مغامرة الهجرة والإبداع الى تخوم مجهولة وغامضة الملامح" والعودة من غير عودة و"التدثر بالموت" و"ملاك العتمة" ـ صدور الكلام عن هذه كلها، مرة واحدة وفي كل مرة (مقال خوري الآخر في عدد ملحق الصحيفة نفسه، "السأم اللبناني")، يرفعه الى مرتبة العرافة والكهانة و"الشعر" و"الثقافة". ويرفع صاحبه أو كاتبه الى مجاور سدرة المنتهى واللوح المحفوظ وقوائم العرش وبرزخ البرازخ ويدخله في الصفوة.والكلام على هذا النحو رطانة بلغة الصفوة. فأهل الرطانة، من طريق الكلام هذا ورصفه وسلكه واستعادته، يتعارفون، ويجددون اشتراكهم في إيجاب مصطلحهم، ويحصون أنفسهم، واحداً واحداً (وواحدة...)، و"ينادون" بعضهم بعضاً (على شاكلة المناداة المدرسية على الحضور)، ويرصّون مرتبتهم، ويحصنونها من عدوى الهجنة، وينتسبون أو يشهرون أنسابهم وقراباتهم، وينسبون أنفسهم وغيرهم. فلا تختلط الأنساب والهويات والأفعال والمعاني والمراتب. فالنسب الصريح هو رأس (مال) عظيم، ولا يجوز التفريط به، ولو أدى الحرص على حفظه، وعلى صراحته القح، الى الهيهية. فالمرثية هذه، شأن مراث أخرى في أصدقاء ورفاق وزملاء آخرين، أو شأن مقالات في موضوعات قريبة أو بعيدة، تبدي وتعيد في عدد قليل من الألفاظ، وعدد أقل من المعاني، ولا تخرج عن هذا ولا تزيد فيه.فالهيهية مآل لا مناص منه. فيرتج القول على سليم باسيلا، وهو يحلق في فضائه، فيتلعثم مفوهاً: "... نتجول فيها معك، بين جميل وجميل، ونجتلي، ونجتني حسنها، حسناً، بعد حسن، بعد حسن". وتسلمه اللعثمة الى أخرى أشد منها: "... فكأنك تنضر كغصن، وتزهر مع الزهر كالزهر، وتمرح مع النسائم والطير كالطير، وتزدان مع الروض كالروض". وعلى مثال قريب يميزه من باسيلا مصطلحه، يكتب خوري: "كانت ابنة طرابلس تتصرف في وصفها الشقيقة الصغرى للجميع (...) كبرت رندة لكنها بقيت صغيرة (...) ظلت على موعد مع البداية (...) الفتاة بقيت صغيرة...". وهذا باب من أبواب قوله. والأبواب الأخرى: البداية، الأسئلة، الحلم، الموت، "جيلنا"، تنسج على المنوال هذا. والفرق بين هيهية باسيلا التقليدية والأدبية والهاوية وبين هيهية خوري الثقافية والجماعية والمحترفة هو ولادة هذه، الخورية، من جسم بيروقراطي جامع ومنظم وعريض. ويضطلع الجسم البيروقراطي هذا بأعباء كثيرة ومتفرقة، ترتبت وتترتب على تقسيم عمل واسع ودقيق.ولا يدعو الضلوع في جسم بيروقراطي مركب الى عبارة ومعانٍ أقوى تركيباً أو أشد تعقيداً. وليست جمهرة "الأعلام"، أي مشاهير الناس الذين يدعون الى كفالة المقالة وصدقها، غير قرينة على احتياج المقالة، في الحالين، الى بهرجة وزينة تثبتانها في روع القارئ أو السامع. والفرق بين الجمهرة الباسيلية وبين الجمهرة الخورية لا يتطاول الى الدور والوظيفة. فكلتاهما تتولى الإبهار والفتنة و"التنويم"،على ما يريد صاحبا الجمهرتين ويقصدان. ويتوسط الكاتب، صاحب الجمهرة، في الحالين، الكوكبة البديعة من الأسماء الباهرة. فهو واسطة عقدها، وروايته أو سيرته هي جامعها وناظمها. فما قد لا ينضبط على قاسم مشترك من خليل عكاوي وميشال سورا (والثاني "درس" الأول وعصبيته المدينية أو الخطية، وقتله أصحاب صاحبه "القساة")، أو من "(مكولسي) اليسار اللبناني الجديد" وريجيس دوبريه، وقد يستحق هو التأمل والألم والأسئلة والاجتهاد في الجواب والاقتصاد في الانفعال والبديع اللفظيين ـ يمحوه موقف النفس المتضخمة والمتورمة، وسعيها في إذابة ما تتناوله في لجتها اللفظية الرقيقة.وهذه النفس، شأن "نفس" رفاعة الطهطاوي و"الأنفس" النهضوية "العربية" على وجه العموم، لا تستقبل من العالم شيئاً، ولا توجب فيه شيئاً، ولا يمتحنها من العالم شيء. وعلى خلاف الحداثة (الشعرية وغيرها) وقطبيها: الذاتي الذي ينصب النفس مبتدعة وموجبة و"العالمي" الكوني الذي يفيض عنها ويلابسها ويستدخلها، لا تقترح النفس الإنشائية واللفظية هذه على العالم غير جمع المتفرقات والشذرات في هواها بنفسها، على مثال جمع الأخبار وتبويبها على موضوعات وأبواب. وما يجمعه هوى النفس، وهي على هذه الحال من الفقر والتكرار والتعسف، يقتصر على الاصطلاح والإعلام (حالها العلامة) والافتعال. ولا يعدو الكلام الكبير، وهو ينتخب الألفاظ الثقيلة ويقحم اصحابه في "ألعاب" عظيمة، لا يعدو تخييل التمارين الكشفية المبتدئة وتشبيهها الحياة في انتظار الحياة وجدها ولعبها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق